هل فكرت يومًا أن تضع نفسك أنت في وضع الطيران، لا مجرد هاتفك فقط؟ أن تنفصل قليلًا عن العالم، عن الإشعارات، عن المكالمات التي لا تنتهي، وحتى عن الضوضاء التي تسرق انتباهك بلا استئذان؟
في زمن لم يعد فيه الصمت متاحًا بسهولة، بات كثيرون يبحثون عن لحظات راحة خالية من التشتت، تمامًا كما تفعل الطائرات وهي تحلّق في السماء، بعيدة عن ضجيج الأرض، في عزلة مؤقتة لكنها ضرورية.
من المثير أن نُعيد التفكير في هذا المفهوم البسيط "وضع الطيران" ونرى كيف يمكن أن يتحول إلى أسلوب حياة صحي، ولو لبضع دقائق في اليوم.
في أثناء السفر، يتم تفعيل هذا الخيار تلقائيًا حفاظًا على سلامة الرحلة. لكن بعيدًا عن الطائرات، صار البعض يستخدمه عمدًا في حال الاستيقاظ أو طوعًا عند النوم ليأخذ استراحة من العالم الرقمي.
المؤكد أنه في هذا الانفصال، تكمن فوائد لا يُستهان بها، نفسيًا وصحيًا واجتماعيًا.
عند السفر بالطائرة، يتعرض الجسم لتغيرات فسيولوجية متعددة: انخفاض في ضغط الهواء، نقص طفيف في الأوكسجين، وتبدل في أوقات النوم والطعام.
إحدى الدراسات العلمية الحديثة أظهرت أن الضوضاء المزمنة المرتبطة بالطيران تزيد من مستويات التوتر وتؤثر في الصحة العامة، خصوصًا لدى من يعانون من أمراض مزمنة أو مشاكل في النوم.
لكن المفارقة الجميلة تكمن في أن وضع الطيران حين يتم تفعيله خارج الطائرة "أي في الحياة اليومية" قد يكون أداة إيجابية لاستعادة التوازن. الكثير من الناس، لا سيما كبار السن، يشعرون بالإرهاق من تسارع الحياة، وتراكم الرسائل.
إيقاف الهاتف، ولو مؤقتًا، يشبه إغلاق الباب أمام العالم والجلوس مع الذات بهدوء. هذه اللحظات من الصمت الرقمي قد تُعيد للنفس توازنها، وتمنح الدماغ فرصة للراحة، بعيدًا عن التركيز المستمر.
لكن الراحة لا تكون حقيقية إلا إذا رافقها وعي. فالانفصال الطويل عن التواصل قد يخلق شعورًا بالوحدة، خاصة عند كبار السن الذين لا يمتلكون دوائر اجتماعية واسعة.
أشارت دراسة أُجريت على مجموعة من كبار السن الذين يسافرون بانتظام لأغراض ترفيهية، إلى انخفاض معدلات الاكتئاب والشعور بالوحدة لديهم مقارنة بمن لا يسافرون إلا نادرًا.
هذا يعني أن التجربة الإنسانية؛ سواء كانت في السفر أو في الحياة اليومية، تحتاج إلى توازن بين الانفصال والاتصال، بين الهدوء والعلاقات.
والعلاقات الاجتماعية لا تقل أهمية عن الراحة النفسية. فالهاتف، بالنسبة للبعض، هو نافذتهم الوحيدة للعالم: وسيلة لرؤية الأحفاد، أو لسماع صوت الابن الذي يعيش في مدينة بعيدة. لذلك، لا بد أن يكون استخدام وضع الطيران قرارًا مؤقتًا، لا أن يكون منهج حياة. فالعزلة إن طالت، تتحول من راحة إلى معاناة.
أما الجانب النفسي، فهو الأكثر حساسية. البعض يشعر بارتياح شديد عند تفعيل وضع الطيران، وكأنهم تخلصوا من عبء غير مرئي. لكن البعض الآخر يراوده القلق من أن يكون قد فاته شيء مهم، أو أن أحدًا حاول الاتصال به ولم يتمكن. هذه المشاعر متباينة، لكنها تعكس احتياجًا مشتركًا شعاره الرغبة في السيطرة على وقتنا، في زمن تفرض علينا فيه التكنولوجيا حضورًا دائمًا.
من أجل تحقيق أقصى فائدة من هذا "الانفصال الواعي"، ينصح الخبراء بتخصيص أوقات محددة خلال اليوم يتم فيها إيقاف الاتصال، مع الحرص على تعويضها بلحظات من التفاعل الإنساني الحقيقي: مكالمة من قريب، أو جلسة قهوة مع صديق، أو حتى مشاركة بسيطة في نشاط جماعي.
خلاصة القول، وضع الطيران ليس مجرد زر في الهاتف، بل خيار يمكن أن يغير طريقة تعاملنا مع أنفسنا ومع من حولنا. هو فرصة للتأمل، للتركيز، للراحة.. وما أجمل أن نتعلم كيف نحلق بأنفسنا بعيدًا عن الضوضاء، ولو لدقائق، لنعود أكثر وعيًا، أكثر طمأنينة، وأكثر حضورًا في الحياة.