الآن أكتب شهادتي عن تمويل المتحف الكبير، من العاصمة اليابانية طوكيو، التي وصلتها بالأمس، وشاء القدر أن أعيش -بكل فخر في بلاد الشمس المشرقة- فرحة الافتتاح الأسطوري للمتحف، وأستعيد -هنا- ذكريات مر عليها أكثر من 22 عامًا، عاصرت خلالها كيف تحول حلم تمويل المتحف، من فكرة، ليصبح حقيقة لا خيالًا.
بداية فكرة مساعدة اليابان في تمويل المتحف، وردت -عرضًا- في أثناء إعداد أسئلة موجهة من مراسل الأهرام في طوكيو، إلى رئيس مجلس وزراء اليابان، كويزومي جونتشيرو، الذي حدد موعدًا لإجراء مقابلة مع الصحيفة، في يوم 19 مايو 2003.
من باب التنسيق، أخبرت سفير مصر في طوكيو وقتها، الدكتور محمود كارم، بنية الحديث مع كويزومي، الذي كان يتهيأ للقيام بزيارة رسمية لمصر. وفوض السفير كارم مستشاره أحمد فاروق، لإبلاغي بإثارة بند مساعدة اليابان في أثناء المقابلة.
البند المطلوب إثارته يمكن أن يأتي ضمن محاور مقابلة الأهرام مع رئيس مجلس وزراء اليابان، ويتعلق البند بالصورة الذهنية لعلامات مضيئة، ترتبط بزيارات مماثلة، لأكبر مسئول حكومي ياباني لمصر، منذ بداية العلاقات الثنائية بين البلدين.
السيد كويزومي -كان وقتها- هو ثالث رئيس لحكومة اليابان يزور مصر وهو في منصبه، سبقه السيد كايفو توشيكي عام 1990، والسيد مراياما توميتشي عام 1995.
وعلى مدار السنوات السابقة والتالية لهذه الزيارات، جرى بناء صروح تنموية شاهدة على عمق العلاقات الثنائية بين البلدين، مثل: دار الأوبرا بالقاهرة، جسر قناة السويس، مستشفى الأطفال ومزارع توليد الكهرباء من الرياح، وغيرها.
بالاتفاق مع السفير محمود كارم طرحت على رئيس مجلس الوزراء الياباني، كويزومي، السؤال التالي: في آخر زيارة لمصر قام بها رئيس مجلس الوزراء الياباني، موراياما توميتشي، في عام 1995، تم وضع الأساس لتطوير العلاقات الثنائية بين البلدين، فهل نتوقع أن تسفر زيارتكم المقبلة لمصر عن مبادرة مماثلة؟
في إجابته المنشورة بالأهرام يوم 22 مايو 2003، قال كويزومي نصًا: "رغبة في تعزيز العلاقات بين اليابان والبلدان العربية، فإنني أهتم جدًا بزيارة مصر، وسوف أبذل كل جهدي لتعميق العلاقات الثنائية". وألمح كويزومي إلى ترتيبات تتعلق بالتعاون الثنائي في مشروع ثقافي كبير، سوف يعلن عنه في أثناء زيارته للقاهرة.
بعد مرور يومين من نشر المقابلة بالأهرام بدون إشارة للمشروع الثقافي المرتقب، وصل كويزومي إلى القاهرة، وجرى -بالفعل- الإفصاح رسميًا عن اقتراح قدمته مصر لرئيس حكومة اليابان، للتعاون في تمويل بناء متحف للحضارة المصرية.
متابعة للاقتراح، نشرت الأهرام بعد مرور أيام قليلة (1 يونيو) تصريحًا منسوبًا للسيد كاواكامي تاكو، رئيس الوكالة اليابانية للتعاون الدولي، جايكا، وكذلك، نص حديث مطول معه (4 يونيو)، تطرق فيهما إلى ترتيبات لقيامه بزيارة رسمية لمصر يوم 7 يونيو، لرفع مستويات المشاركة الثنائية، ونقلها من مرحلة القول إلى الفعل.
سألته: هل نتوقع من زيارتكم لمصر الإعلان عن مبادرات جديدة للتعاون الثنائي؟
أجاب السيد كاواكامي قائلًا: "جايكا ليست وحدها هي المعنية بتقديم المساعدات الاقتصادية الرسمية اليابانية لمصر، فهناك -أيضًا- البنك الياباني للتعاون الدولي، جيبيك. وقد استمعت إلى تفاصيل الاقتراح الذي تقدمت به مصر إلى رئيس مجلس وزراء اليابان، كويزومي، في أثناء زيارته للقاهرة، بشأن التعاون في تمويل بناء متحف عملاق للحضارة المصرية.
هذا المشروع الكبير لا يخص جايكا وحدها، بل يرتبط بصميم عمل جيبيك، وهناك معلومات تشير إلى إيفاد مبعوثين يابانيين لمصر لدراسة تمويل المشروع، ولو تقرر شيء يخصنا، فإننا سوف نضعه في الاعتبار".
بعد مرور أقل من شهر على نشر حديث رئيس الجايكا بالأهرام، أجريت حديثًا مطولًا مع السيد أوكاموتو يوكيو، المستشار السياسي لرئيس حكومة اليابان، الذي خدم في مصر كدبلوماسي، في فترة مبكرة من عمله، وكان يحظى بثقة كويزومي، وينظر إليه الجميع باعتباره المحرك الفعلي لمجمل القرارات اليابانية-العربية.
ضمن الحديث الذي نشرته الأهرام صباح يوم 8 يوليو 2003، ظهرت ملامح وأفكار وإمكانية قيام اليابان بتمويل بناء المتحف الكبير، لتصبح حقيقة لا خيالًا.
في فترة لا تتجاوز مدتها شهرين ونصف الشهر، وتحديدًا من منتصف أبريل 2003 وحتى 8 يوليو 2003، قام المستشار السياسي لرئيس حكومة اليابان، أوكاموتو يوكيو، بزيارة مصر 5 مرات، بداية، بهدف التحضير للقمة المصرية-اليابانية التي انعقدت بالقاهرة في شهر مايو، ومن بعدها، استهدفت الزيارات متابعة نتائجها.
قبل توجهه للقاهرة للقيام بزيارته الخامسة، سألته بشكل مباشر عن مشروع المتحف الكبير: وما هي أوجه المساعدة والمعونة التي ستقدمها اليابان في بنائه؟
قال المستشار السياسي لرئيس مجلس الوزراء الياباني، نصًا: "الجانب المصري أبدى رغبة -في البداية- لسحب قرض حسن من اليابان لتمويل المشروع، وفي وقت لاحق، غير الجانب المصري رأيه، ودعا إلى إمكان الحصول على منحة لتمويل إقامة المتحف، والموضوع لا يزال تحت الدراسة في هذه المرحلة، وقد تم إيفاد عدد من الخبراء اليابانيين للقاهرة، للتعرف على حجم ونوع المساعدة التي سنقدمها".
أضاف السيد أوكاموتو، نصًا: "ما أود التنويه إليه -حقيقة- هو اهتمام رئيس حكومة اليابان بتاريخ مصر". وروى المستشار واقعة محددة جرت خلال زيارة كويزومي، قائلًا: "أصر رئيس الحكومة على زيارة موقع مراكب الشمس بجوار الأهرامات، مما أدى إلى تأخر موعد إقلاع طائرته لمدة ساعة كاملة، أيضًا، وبدون أن يقدم الجانب المصري أية طلبات خلال زيارة كويزومي للقاهرة، بادر الزعيم الياباني الكبير -بنفسه- وأعلن استعداد اليابان للمساعدة في تمويل بناء المتحف الكبير".
تلك هي القصة الحقيقية لبدايات التعاون الثنائي بين مصر واليابان في تمويل بناء المتحف، التي عاصرتها، وكتبت عنها تفصيلًا بالأهرام، منذ أكثر من 22 عامًا، وينطبق عليها بيت الشعر: "كان حلمًا فخاطرًا فاحتمالًا، ثم أضحى حقيقة لا خيالًا".
وطالما ذكرت -في بداية المقال- اسمي السفيرين محمود كارم وأحمد فاروق، منوهًا إلى دورهما التاريخي في تمرير فكرة التعاون الثنائي المصري-الياباني في بناء المتحف الكبير، بحرفية ودبلوماسية، لكي أنقلها -بلطف وضمن سؤال- إلى الزعيم الياباني كويزومي، أقول: وجب التنويه -كذلك- بالمجهودات العظيمة التالية، لسفراء مصر: هشام بدر، وليد عبدالناصر، هشام الزميتي، أيمن كامل، محمد أبوبكر، راجي الأتربي، وهاني صلاح، وغيرهم. أيضًا، وجب التنويه إلى دور سفراء اليابان: سوتو تاكايا، وإيشيكاوا كاورو، وأوكودا نوريهيرو، وهيروشي أوكا، وإيواي فوميو.
[email protected]