اليوم .. اكتشفنا سر الخلود!!

1-11-2025 | 15:04

لا يمر مشهد الافتتاح المهيب للمتحف المصري الكبير دون أن نتساءل عن المغزى الحقيقي الذي يكمن وراء حدث بهذا الحجم. فالمراقب الموضوعي يدرك أن ما يجري في مصر اليوم يتجاوز بكثير فكرة الاحتفال بمنشأة ثقافية جديدة، إنه تجسيد عملي لرؤية سياسية تنموية تستعيد فيها الثقافة موقعها الصحيح باعتبارها قاطرة للتقدم وليست ترفًا فكريًا.

إن وضع الثقافة في صلب السردية الوطنية، كما يبدو جليًا في هذا المشروع، هو علامة على نضج في الفكر السياسي، يدرك أن بناء الإنسان لا يقل أهمية عن بناء المنشآت، وأن الاقتصاد القوي يحتاج إلى هوية ثقافية راسخة تستند إليها.

للتأريخ دلالاته العميقة. فلو عدنا بالذاكرة إلى منتصف القرن التاسع عشر، وتحديدًا إلى عام 1858، عندما أسس مارييت متحف بولاق، ثم انتقل إلى قصر الجيزة، وأخيرًا استقر في مبناه الحالي بميدان التحرير عام 1902، لاستطعنا أن نتبين المسار التصاعدي للوعي الأثري في مصر. المتحف المصري بالتحرير كان، في زمنه، إنجازًا ثقافيًا هائلًا، مثّل الذروة في التنظيم العلمي والعرض المتحفي في ذلك العصر. ولكن، وكما هي طبيعة الحياة، فإن ما كان بالأمس قمة التقدم، يصبح اليوم بحاجة إلى تطوير.

إن قرار إنشاء المتحف المصري الكبير لم ينبع من فراغ، لقد جاء نتاجًا لتراكم كمي ونوعي في الوعي بأهمية التراث، وتطور في المفاهيم المتحفية العالمية، وإدراك للقيمة الاقتصادية الهائلة الكامنة في هذا التراث. فالمباني القديمة، رغم عراقتها، لم تعد قادرة على استيعاب الاكتشافات الأثرية الجديدة، أو تلبية متطلبات الحفظ والصيانة الحديثة، أو تقديم تجربة الزائر المعاصر التي تتسم بالتفاعلية والغوص في العمق التاريخي.

اختيار موقع المتحف عند سفح الأهرامات هو تكتيك ذكي يجمع بين عراقة الماضي وعبقرية الحاضر. فالمنطقة التي شهدت أولى خطوات البشرية نحو البناء والعمران، تستقبل الآن أحدث صروحها المتحفية. هذا الاختيار يعيد تشكيل الخريطة السياحية لمصر، ويحول منطقة الأهرامات من مجرد موقع أثري إلى مقصد ثقافي متكامل.

من الناحية الرمزية، فإن الموقع يحمل رسالة عميقة، إنه يؤكد الاستمرارية الحضارية. فالأهرامات، وهي أعظم صروح العمارة القديمة، تلتقي مع المتحف الكبير، وهو أحدث صروح العمارة الحديثة، في حوار بصري ومعنوي يخاطب الوجدان الإنساني. إنه يقول للعالم: إن الأمة التي بنت هذا الماضي المشرق، قادرة على أن تبتكر حاضرًا لا يقل عنه روعة وإبهارًا.

أما من الناحية المادية، فإن المشروع يمثل استثمارًا طموحًا في صناعة السياحة الثقافية، وهي صناعة تتناسب مع طبيعة العصر الذي نعيشه. فالسياح اليوم لم يعودوا يبحثون عن الترفيه فقط، بل عن المعرفة والتجربة الثقافية الأصيلة. وتوقعات الحكومة باستقطاب الملايين من الزوار سنويًا ليست ضربًا من الخيال، هي حسابات قائمة على دراسة واقع السوق العالمي للسياحة الثقافية. والعوائد المتوقعة، سواء المباشرة من تذاكر الدخول أو غير المباشرة من إنعاش قطاعات الفنادق والنقل والحرف اليدوية، تشكل دفعة قوية للاقتصاد القومي.

الحضور الدولي.. رسالة مهمة

لا يمكن قراءة حضور تسعة وسبعين وفدًا رسميًا، بينهم تسعة وثلاثون وفدًا برئاسة ملوك وأمراء ورؤساء، إلا كتصويت عالمي بالثقة في مصر وقدرتها على حماية تراثها الإنساني. هذا الحضور الكثيف، في ظل ظروف إقليمية بالغة التعقيد، يشكل رسالة دبلوماسية مفادها أن العالم لا يزال ينظر إلى مصر كحاضنة للحضارة ومنارة للثقافة.

وفي معادلة القوى الدولية، يأتي المتحف المصري الكبير ليعيد ترجيح كفة القوة الناعمة المصرية. فالأمة التي تمتلك هذا التراث الحضاري قادرة على أن تكون لاعبًا رئيسيًا في الساحة الثقافية العالمية. المتحف بات منصة لحوار الحضارات، ووسيلة لإعادة صياغة الصورة الذهنية عن مصر في العالم.

هنا يبرز التساؤل الملح وهو: لماذا يهتم قادة العالم بهذا الحدث الثقافي بالذات؟ الإجابة تكمن في أن الثقافة، في عصر العولمة، أصبحت لغة مشتركة تتجاوز الخلافات السياسية. إنها مجال للتواصل الإنساني الذي يسبق التواصل السياسي، وأحيانًا يمهد له. حضور زعيم سياسي إلى متحف في بلد آخر هو رسالة سلام وتعاون، ربما تكون أكثر فاعلية من عشرات الاجتماعات الرسمية.

بين شرم الشيخ والجيزة

إن الربط الواضح بين حدثي قمة شرم الشيخ للسلام وافتتاح المتحف المصري الكبير يفضي بنا إلى استنتاج مهم، وهو أن الدولة المصرية تتبنى إستراتيجية متكاملة تعيد من خلالها تعريف مصادر قوتها. فلم تعد القوة مقصورة على المقومات العسكرية أو الاقتصادية التقليدية، إنما امتدت لتشمل مقومات القوة الناعمة المتمثلة في التراث الحضاري والقدرة على صناعة السلام والتأثير في الرأي العام العالمي.

في شرم الشيخ، كانت مصر تتحدث بلغة السياسة والسلام، بلغة الوساطة والحد من النزاعات. وفي الجيزة، تتحدث بلغة الحضارة والجمال، بلغة الإرث الإنساني المشترك. اللغتان مختلفتان، لكنهما تكمل إحداهما الأخرى. فالدولة التي تستطيع أن توقف حربًا هي نفسها الدولة التي تحفظ للإنسانية تراثها. هذه الصورة المركبة تخلق هالة من المصداقية والقدرة تجعل من مصر طرفًا لا غنى عنه في المعادلة الإقليمية والدولية.

متحف من أجل المستقبل

وراء هذا الصرح الثقافي العملاق، تكمن رؤية تنموية شاملة تدرك أن الثقافة يمكن أن تكون محركًا للاقتصاد. المتحف سيوفر آلاف فرص العمل، وسينعش قطاعات سياحية متعددة، وسيسهم في خلق نسيج اقتصادي جديد قائم على الصناعات الثقافية والإبداعية.

غير أن المكاسب الاقتصادية، على أهميتها، لا يجب أن تطغى على القيمة الحضارية والمعرفية لهذا المشروع. فالمتحف، في وظيفته الأساسية، هو مؤسسة علمية تقدم خدمة جليلة للمعرفة الإنسانية. فهو يحفظ للإنسانية تراثها، ويقدم للباحثين مادة خصبة للدراسة، ويُذَكِّر العالم أجمع بالإسهام المصري الخالد في مسيرة الحضارة. هذه الوظيفة التعليمية والبحثية هي التي تضمن للمتحف استمراريته وقيمته التي تتجاوز أي عائد مادي.

ما بعد الافتتاح

بيد أن هذا الإنجاز الكبير يضع أمام المسئولين والمجتمع بأسره جملة من التحديات الجدية. فحماية هذا الكنز الحضاري من المخاطر الطبيعية والبشرية تتطلب نظامًا أمنيًا وفنيًا على أعلى مستوى من الكفاءة. كما أن تحقيق التوازن بين فتح الأبواب للجمهور وبين الحفاظ على القطع الأثرية من التلف يحتاج إلى إدارة علمية محكمة.

التحدي الأكبر يتمثل في تحويل هذا الصرح من مجرد مبنى يعرض آثارًا إلى مركز إشعاع فكري وثقافي. كيف يمكن تحويل الزيارة من مجرد مشاهدة إلى تجربة تعليمية تثري الوعي؟ كيف يمكن توظيف التقنيات الحديثة لتقديم محتوى علمي رصين يخدم الباحثين والجمهور العام على حد سواء؟ وكيف سيتم توظيف هذا الصرح لتعزيز الوعي الأثري والتاريخي لدى المواطن المصري نفسه، ليشعر بأن هذا الإرث هو جزء من كيانه وهويته؟

ختامًا، يمكننا القول إن افتتاح المتحف المصري الكبير هو محطة فارقة في مسيرة مصر الحديثة. إنه يؤشر إلى عودة الثقة بالنفس، واستعادة المبادرة، والإيمان بأن طريق المستقبل يمر عبر فهم صحيح للماضي. وهو يقدم نموذجًا يحتذى به في كيفية تحويل التراث الثقافي من مادة للدراسة الأكاديمية إلى مشروع تنموي حيوي يخدم الأجيال الحاضرة والقادمة.

النجاح في هذه المعادلة الصعبة - معادلة الجمع بين الأصالة والحداثة، وبين الثقافة والاقتصاد - هو الضمان الحقيقي لاستمرار عطاء مصر الحضاري، وتأكيد دورها كمنارة للفكر والإبداع في عالم يبحث عن نقاط ضوء في ظلام التحديات.

المتحف المصري الكبير، في رؤيته الأعمق، هو بيان عملي لفلسفة تنموية تؤمن بأن المستقبل لا يبنى على أنقاض الماضي، بل على أسسه المتينة. وهو تأكيد على أن الأمم العظيمة هي تلك التي تحافظ على تراثها بينما تبني مستقبلها، والتي تدرك أن الاستثمار في الثقافة هو، في حقيقته، استثمار في الإنسان. وهذا بالضبط ما تفعله مصر اليوم.

 [email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة