أثارت الارتفاعات الأخيرة في أسعار الذهب جدلًا اقتصاديًا محتدمًا؛ فالشاشات امتلأت بآراء لخبراء في أسواق المال والمعادن. بعضهم يرى أن الذهب في طريقه إلى مستويات تاريخية غير مسبوقة، وآخرون يحذرون من حدوث فقاعة ستنفجر قريبًا. وبين هؤلاء وأولئك، يقف المواطن حائرًا أمام السؤال: إلى أين يتجه هذا المعدن الذي لا يفقد بريقه؟
الذهب... أكثر من مخزن للقيمة
على مر التاريخ، كان الذهب هو الملاذ الآمن الذي تلجأ إليه الشعوب في أوقات الاضطرابات، لكنه مؤخرًا أصبح معدنًا له استخدامات عملية واسعة. فقرابة 20٪ من الإنتاج العالمي للذهب يدخل في الصناعات المتقدمة:
في الإلكترونيات الدقيقة، حيث تُستخدم طبقات ذهبية رقيقة في المعالجات والشرائح لضمان التوصيل الدقيق والمستقر.
وفي الطب، يدخل في صناعة أدوات جراحية لا تصدأ ومركبات علاجية لبعض أنواع السرطان.
كما يُستخدم في الطاقة المتجددة وتكنولوجيا الفضاء وأجهزة القياس عالية الحساسية.
ومع التوسع في الذكاء الاصطناعي والأجهزة القابلة للارتداء والطاقة النظيفة، يُتوقع أن يزداد الطلب الصناعي عليه تدريجيًا، ليصبح للذهب مستقبل مزدوج: ملاذ آمن وصناعة واعدة في آن واحد.
لماذا هذا الارتفاع غير المسبوق؟
قفز الذهب هذا العام بأكثر من 45٪، وهو صعود لا تفسره الأزمات السياسية المزمنة فقط، بل تضافرت معها أيضًا مجموعة من العوامل الاقتصادية والنفسية.
1️⃣ التوترات الجيوسياسية الممتدة
منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية وتصاعد التنافس الأمريكي-الصيني، والعالم في حالة من "القلق الهيكلي". فاقم من تلك التوترات تداعيات حرب غزة والتهديد الأمريكي لجيرانها في أمريكا اللاتينية. هذه الحالة تدفع الحكومات والمستثمرين إلى تقليل انكشافهم على العملات والسياسات، واللجوء إلى الذهب بوصفه أصلًا لا يرتبط بإرادة دولة واحدة.
2️⃣ العقوبات وتجميد الأصول
حين جُمِدت مئات المليارات من الأصول الروسية في عام 2022، أدركت دول عديدة – خصوصًا في آسيا والشرق الأوسط – أن الاحتفاظ بالاحتياطيات في الدولار أو السندات الأمريكية يحمل مخاطر سياسية. فبدأت البنوك المركزية في تحويل جزء من احتياطاتها إلى الذهب كـ"ملاذ سيادي" لا يمكن مصادرته.
3️⃣ سياسات البنوك المركزية
في عام 2025 بلغت مشتريات البنوك المركزية من الذهب مستويات قياسية، تجاوزت في بعض الأشهر ما كان يُسجل خلال الأزمات المالية الكبرى. ففي النصف الأول من هذا العام سجلت البنوك المركزية حول العالم مشتريات تجاوزت 400 طن من الذهب، وكانت الصين وتركيا والهند على رأس القائمة. وانضمت أيضًا دول أوروبية ومن أمريكا اللاتينية إلى الشراء، مما خلق طلبًا حقيقيًا رفع الأسعار.
4️⃣ صناديق التحوّط والمستثمرون الكبار
مع تراجع العائد على السندات وتذبذب أسواق الأسهم، والقرارات الأمريكية المرتبكة بخصوص التعريفة الجمركية، اتجهت كبرى صناديق التحوّط إلى زيادة حيازاتها من الذهب للتحوّط من التضخم. وتشير بعض التقارير إلى أن جزءًا من الارتفاع الأخير ناتج عن موجة شراء مؤسسية متزامنة مع قفزة الأسعار.
5️⃣ سياسات البنك الفيدرالي الأمريكي
تاريخيًا يتناسب سعر الذهب عكسيًا مع أسعار الفائدة. وحيث إن اتجاه البنك المركزي الأمريكي الحالي هو خفض الفائدة، فمن الطبيعي أن يرتفع الذهب. كذلك فإن الإغلاق الحكومي الأمريكي الأخير الممتد، والخوف من تعثر خدمة الدين العام الأمريكي، أضعفا الثقة في النظام المالي التقليدي.
6️⃣ العوامل النفسية
عند ارتفاع سعر أصل ما -سهم أو عملة أو معدن- بصورة غير مسبوقة، يندفع الجمهور في موجة شراء دوافعها نفسية بحتة، ويُطلق عليها "الخوف من فوات الفرصة". وهذا بالتأكيد يفسر جزئيًا الشراء المبالغ فيه في أسواق الذهب خلال الشهور الماضية. خطورة العامل النفسي أنه يجذب المضاربين الباحثين عن المكسب السريع، ومتى امتلأت الأسواق بالمضاربين تشكلت فقاعة لا تعبر عن السعر الحقيقي، وإذا تشكلت تلك الفقاعة فتكون الخطوة التالية قصر الزمن أو طال هو انفجارها.
هل نحن الآن أمام فقاعة؟
الارتفاع الحاد لا يعني بالضرورة أن هناك فقاعة تكونت، والتراجع في آخر أسبوعين لا يعني أن الفقاعة بدأت تنفجر، فجزء كبير من الطلب الحالي مؤسس على دوافع واقعية: تغيّر ميزان القوة بين العملات، وتراجع الثقة في سداد الديون السيادية. ومع ذلك، فإن وتيرة الارتفاع كانت أسرع من المنطق الاقتصادي، ما يوحي بأن الأسعار ربما تجاوزت قيمتها العادلة وحان الوقت لبعض التصحيح.
من المرجح أن يستقر الذهب في نطاق مرتفع خلال الأشهر المقبلة، وربما يرتفع بوتيرة محدودة، لكن من الصعب تكرار قفزة 45٪ مجددًا ما لم يشهد العالم صدمة مالية كبرى أو توسعًا حربيًا جديدًا. ووفقًا لتقديرات بنك جي بي مورجان، قد يصل سعر الأونصة إلى نحو 5000 دولار بحلول الربع الرابع من عام 2026، أي بزيادة تقارب 25٪ من السعر الحالي لها - لكنها تبقى تنبؤات قد تصدق أو لا، وما أكثر تنبؤات كبرى البنوك العالمية التي لم تتحقق.
خاتمة
الذهب في جوهره ليس مجرد معدن أصفر، بل مقياس لنبض الخوف والأمل في آن واحد. كل مرة يهتز فيها العالم، يعود الناس إلى ما يظنونه ثابتًا منذ الأزل. وما لم تحدث أزمة جديدة تعصف بالأسواق، فالأرجح أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة توازن لا اندفاع، حيث يعود الذهب إلى طبيعته كملاذ آمن، لا كسباق محموم نحو الربح السريع.