«متحف التحرير».. «صرح آثري» تاريخي يجدد من ثوبه

31-10-2025 | 15:40
;متحف التحرير; ;صرح آثري; تاريخي يجدد من ثوبهالمتحف المصري بالتحرير
بقلم: دعاء الهامي

بينما يفتح المتحف المصري الكبير أبوابه بالقرب من هضبة أهرامات الجيزة، يستعد أيضًا المتحف المصري بميدان التحرير في قلب القاهرة لمستقبله

موضوعات مقترحة

على الرغم من انتقال جزء من كنوزه إلى المتحف المصري الكبير، يواصل متحف التحرير إشعاعه؛ فجاذبيته وتاريخه الغني ومجموعاته التي لا تُقدَّر بثمن تمنحه بريقًا وتفرّدًا يقاوم الزمن. وقد أُطلقت العديد من المشاريع للحفاظ على روعة هذا المتحف الذي يعود لأكثر من قرن.

«تقديم دفعات وانطلاقات جديدة، أفكار جديدة وخلق مساحات جديدة»، هكذا يشير عالم المصريات طارق توفيق متحدثًا عن الرؤية التي تبناها فريق المتحف التاريخي. هذا المتحف الذي يزيد عمره على مئة عام، يشرع اليوم في نهضة حقيقية دون أن يتخلى عن هويته أو أصالته.

وإلى جانب المجموعات القيّمة التي لا تزال معروضة فيه والمقرر عرضها في مساحات أكثر اتساعًا، رأى المسؤولون أيضًا ضرورة دمج التقنيات الحديثة. إذ يشير الدكتور علي عبد الحليم، مدير المتحف، إلى هذا الأمر قائلًا: «لقد لاحظت بعض الثغرات في استخدام التقنيات الرقمية والتحول الرقمي»، ولذلك أنشأ قسمًا متخصصًا مكلفًا بسد هذه الفجوات وإعادة التفكير في علم المتاحف في عصر الرقمنة. فقد أضحى الواقع الافتراضي والواقع المعزز ورموز الاستجابة السريعة (QR Code) جزءًا لا يتجزأ من تجربة الزوار.

التكنولوجيا في خدمة التراث

في هذا الصدد، يُعَدّ برنامج ميتا إريبنيا أحد المشاريع البارزة في هذا التحول التكنولوجي، وهو برنامج قادر على إعادة بناء القطع الأثرية الناقصة افتراضيًا. وقد استفادت بالفعل خمس قطع رئيسية من هذه الإعادة الرقمية.

وتوضح عالمة المصريات سمر الخميسي، مسؤولة القسم التقني والتكنولوجي: «على الزائر فقط مسح رمز الاستجابة السريعة للاستمتاع بالتمثال كاملًا في صورته الأصلية والوصول إلى معلومات غنية عن تاريخه». وتضيف: «مع هذا البرنامج، ننتقل من معرض ثابت إلى معرض تفاعلي، مما يبعث التشويق والحركة».

وتُعَدّ إعادة بناء هذه القطع الخمس مجرد خطوة أولى؛ إذ يخطط المسؤولون لإعادة إنشاء نحو مئة قطعة أثرية افتراضيًا خلال السنوات القادمة. كما يطمح المتحف إلى تركيب برامج رقمية جديدة بحلول نهاية عام 2025.

وتتسلل هذه التكنولوجيا أيضًا إلى المعارض المؤقتة، مثل المعرض المخصص لعطور العصور القديمة، حيث كان بإمكان الزوار – بفضل الواقع المعزز – استشعار الروائح التي كانت تُستخدم في عصور مصر القديمة افتراضيًا. وكذلك سمح المعرض المقام مؤخرًا عن الملك أمنحتب الثالث (1390 – 1353 قبل الميلاد) بإعادة إنشاء ليس فقط غرف الملك، بل أيضًا الزخارف التي كانت تزين قصره.

ويوضح عالم الآثار عصام ناجي، عضو فريق إعادة تطوير المتحف: «بفضل المعلومات الأثرية، نتمكن من إعادة خلق جو كامل للعصور القديمة بشكل افتراضي، بما في ذلك القصور والأثاث والحدائق».

بين الأصالة والحداثة

على الرغم من أن المتحف يوفر أرضية مثالية لتطبيق الذكاء الاصطناعي، فإن مديريه والمفتشين يتفقون على ضرورة إيجاد توازن بين الأصالة والتكنولوجيا.

بالنسبة لـ مؤمن عثمان، المدير العام السابق لقطاع المتاحف، «الثروة الحقيقية للمتحف تكمن في قيمة محتواه». ويشاركه الرأي خبير المصريات مجدي شاكر، الذي يؤكد أن المتحف المصري لا يزال يحتفظ بقطع ذات قيمة استثنائية: «يحتوي المتحف – على سبيل المثال لا الحصر – على تمثال الملك خفرع المنحوت من الجرانيت، وهو تحفة فنية من تاريخ مصر القديمة يلاحظها بالكاد الزوار نظرًا لتكدس القاعة بالآثار».

ويشير أيضًا إلى أن كنوز تانيس ستُعرض قريبًا في نفس القاعة التي كانت تحوي كنوز توت عنخ آمون. ويشرح الخبير سبب ضعف شهرة هذه المجموعة قائلاً: «كنوز تانيس، التي تكاد تكون كلها من الذهب، تتمتع بجمال وبهاء يعادلان جمال قطع توت عنخ آمون، لكنها لم تحظَ بالترويج الإعلامي الكافي نظرًا لاكتشافها عام 1939، وهو عام تزامن مع اندلاع الحرب العالمية الثانية». ويضيف أن المتحف يعرض أيضًا المجموعة الثمينة الخاصة بـ تويا ويويا، جدّي توت عنخ آمون.

ويشير عالم المصريات كذلك إلى رؤية طموحة، وهي تحويل جزء من المتحف المصري إلى مؤسسة دولية مخصصة لدراسة علم المصريات، وهي فكرة اقترحها في البداية وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني. بحيث يستقبل هذا المركز العلمي طلاب الماجستير والدكتوراه، بالإضافة إلى المتخصصين في المجال، موفرًا لهم تجربة تعليمية فريدة في قلب المجموعات الأثرية التي تغطي جميع فترات التاريخ المصري القديم.

ويضيف مؤمن عثمان أن «ثروات المتحف تتجاوز بكثير القطع المعروضة؛ فأرشيفاته ومكتباته تحتوي على كنوز علمية وتاريخية هائلة، وقد أُطلقت مشاريع مهمة للرقمنة للحفاظ على هذه المجموعات وجعلها متاحة على نطاق عالمي». وتشهد هذه الأرشيفات على قرن من التاريخ: كالزيارات الملكية والرئاسية، وإحياء ذكرى البعثات الأثرية الأجنبية، أو الاكتشافات العلمية الكبرى.

ويشير عصام ناجي إلى أنه «بفضل الرقمنة، تعود هذه الوثائق إلى الحياة وتغذي معارض جديدة، فضلًا عن مشاريع التعاون الدولي». كما أتاح العمل على ترميم القطع المحفوظة لعقود في المخازن تعزيز التعاون مع علماء المصريات الأجانب.

ويؤكد عبد الحليم: «هذه التبادلات العلمية الدولية ضرورية»، مشيدًا بـ«كفاءة موظفي المتحف الاستثنائية»، فهم قادرون على إبراز إرث يغطي تاريخ مصر القديمة بأكمله، من عصور ما قبل التاريخ حتى العصرين اليوناني والروماني.

جوهرة تراثية

إذا كانت التكنولوجيا قد بدأت تحتل مكانة متزايدة في علم المتاحف بمتحف التحرير، فلا ينبغي أن ننسى أن المبنى في حد ذاته يُعَدّ عملًا تراثيًا؛ إذ افتُتح عام 1902، وهو جزء لا يتجزأ من التراث المصري. صممه المعماري الفرنسي مارسيل دورنيون، ويُعتبر أقدم مبنى في العالم أُنشئ من الأساس ليكون متحفًا.

ويستعيد هذا المبنى التاريخي اليوم لونه الأصلي وحديقته الأصلية، ويتكامل بيئته الحضرية تمامًا مع مشروع إعادة تأهيل القاهرة الخديوية: بداية من تحويل مبنى المجمع إلى فندق، مرورًا بإعادة تنظيم كورنيش النيل ليصبح «ممشى أهل مصر»، وانتهاءً بترميم ميدان التحرير، الذي أصبح الآن مزينًا بمسلة وأربعة تماثيل لأبي الهول.

وفي قلب هذا الصخب، يظل المتحف المصري بالتحرير جوهرة المتاحف في البلاد، شاهدًا حيًا على الماضي، ومتجهًا بحزم نحو المستقبل. إنه يحتفظ بروحه ويستمر، من خلال قاعاته، في سرد الملحمة الساحرة لمصر القديمة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة