د. زاهي حواس يكتب: إرث مصر الدائم وبناء تراث عالمي

31-10-2025 | 13:13
د زاهي حواس يكتب إرث مصر الدائم وبناء تراث عالمي د. زاهى حواس يكتب إرث مصر الدائم وبناء تراث عالمي

يمثل المتحف المصري الكبير، الواقع على حافة هضبة الجيزة، تتويجًا لتطلعات أجيال كان هدفها إعادة الحفاظ على تراث مصر الأثري الذي لا يقدر بثمن.

موضوعات مقترحة

إن إنجاز هذا المشروع لا يعد إنجازًا رائعًا فقط بسبب حجمه، بل أيضًا لقدرته على تجسيد العلاقة المتطورة بين مصر والوصاية العالمية على التراث الثقافي.

إن المتحف المصري الكبير ليس مجرد مكان للحفاظ على الآثار، بل هو مؤسسة ديناميكية محفزة للتعليم ومركز للبحث العلمي وسفير دولي لدور مصر الدائم في تاريخ البشرية.

يعكس اختيار موقعه، الذي يتماشى بشكل مباشر مع آخر عجائب الدنيا السبع القديمة التي لا تزال قائمة، الفكرة الأساسية ألا وهى أن التراث المصرى ليس مجرد الحجر أو شاهد على الزمن، بل هو يتجلى في الحوارالممتد بين العصور القديمة والحاضر.

لقد كانت رؤية فاروق حسني، وزير الثقافة الأسبق، علامة مميزة لكل مرحلة من مراحل التطور المتعلقة بمفهوم المؤسسة.. إن مطالبته بإنشاء متحف جديد تحت أنظار الأهرامات رسّخ المشروع في المشهد الأبدي الذي جعل من مصر رمزًا للإنجاز البشري.. لم يكن تصميم المتحف المصري الكبير تحديًا تقنيًا أو لوجستيًا فحسب، بل كان أيضًا مبدأ ثقافيًا: توحيد الجمال المعمارى المميز لمنطقة الجيزة مع المسؤولية المستمرة التي تستوجب الحفاظ على الذاكرة الوطنية.

في عام 2002، أطلقت الدولة المصرية مناقصة عالمية لتصميم المتحف.. شكلت المسابقة المعمارية الدولية واحدة من أكثر المشاريع طموحًا في تاريخ تخطيط المتاحف الحديث.. تم تلقي أكثر من 2000 اقتراح، وهي شهادة على الانبهار العالمي بالآثار المصرية والتحدي المتمثل في التوفيق بين المعايير المتحفية الحديثة والسياق الاستثنائي لهضبة الجيزة.. تم اختيار المشروع الفائز، الذي قدمه مهندس معماري صيني مقيم في دبلن، لحلول تقنية مبتكرة آخذا في الاعتبار السياق الصحراوى ومناظره الخلابة. على سبيل المثال، تعد واجهة المبنى إنجازًا تكنولوجيًا وإيماءة جمالية، حيث تعكس ضوء الصحراء بطريقة تدمج المتحف بشكل متناغم مع محيطه القديم دون الوقوع في التقليد الحرفي.

وكان التخطيط المالي واللوجستي للمشروع بنفس القدر من الأهمية. 

بدلاً من الاعتماد حصريًا على دعم الدولة، اعتمد بناء المتحف المصري الكبير إستراتيجيًا على الشراكات الدولية والعملة العالمية للتراث المصرى.. وحققت المعارض الدولية لكنوز توت عنخ آمون أكثر من 120 مليون دولار، في حين مكّن قرض كبير من اليابان، تجاوز 400 مليون دولار، من استكمال البنية التحتية الرئيسية.

ومن الجدير بالملاحظة بشكل خاص الطريقة التي تم بها تخصيص هذه الموارد: تم وضع مختبرات الترميم لأماكن التخزين على نفس مستوى الأولوية مثل مساحات العرض، مما يعكس الرغبة في جعل المتحف مكانًا للبحث العلمي والحفظ والتعليم بقدر ما هو مكان للعرض للجمهور.

لقد أعاقت أحداث عام 2011 بشكل كبير تحقيق هذه الرؤية الطموحة.. حيث أدى عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي إلى توقف العمل، مما أثار مخاوف من إلغاء المشروع نهائيًا. إلا أن استئناف العمل بقيادة السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي خصص ما يقارب مليار دولار من الاستثمارات العامة، أثبت أن الحفاظ على التراث الثقافي أولوية حيوية للدولة المصرية. إن هذه المرونة الجماعية توضح القناعة بأن الآثار ليست بقايا نظام عابر، بل هي موارد للتجديد الوطني والعالمي.

ويرجع الاختيار الدقيق لمساحة المتحف - 117 فدانًا على هضبة الجيزة — إلى أنه يشبه في صورته النهائية بمدينة حقيقية مُخصّصة للعلوم والتعليم والتأمل الفني.

يُعدّ المتحف الوطني المصري الكبير، من حيث حجمه وتصميمه ورسالته، أكبر متحفٍ بُني من اجل حضارةٍ واحدة، وأحد أبرز المؤسسات العلمية في الشرق الأوسط والعالم. لم يكن وضع حجر الأساس المهيب مجرد عمل إداري، بل كان لحظة من الفخر الوطني، حيث أسس رابطًا جديدًا بين ماضي مصر ومستقبلها العالمي.


د. زاهى حواس مع الفنان فاروق حسني

المجموعات الأثرية والتفسيرات والابتكارات المتحفية

تعكس الإستراتيجية المتحفية التي اعتمدها المتحف المصري الكبير أفضل الممارسات في إدارة التراث العالمي وتشكل تجاوز حاسم للنماذج التقليدية للمعارض الأثرية. بمجرد اقتراب الزائر من المتحف، تستقبله مسلة رمسيس الثاني، التي تم نقلها من تانيس، والتي تعمل في آن واحد كمعلم بارز ورمز مذهل لاستمرارية مصر على مدى آلاف السنين.

عند عبور هذا العتبة، يكتشف الزائر التمثال الضخم لرمسيس الثاني، الذي تم نقله من ميدان رمسيس بفضل إنجاز هندسي وطني مذهل. هذه الآثار ليست مجرد أشياء تثير الإعجاب الجمالي، بل هي بوابات لتجربة مصممة لتكون رحلة فكرية وعاطفية عبر تاريخ الحضارة المصرية.

الدرج العظيم يجسد هذه الفلسفة.. فهو عنصر معماري ومجاز تنظيمي في آن واحد، يرشد الزائر في صعود رمزي عبر القرون.. كلما صعد الزائر، صادف موكباً من التماثيل الفرعونية — ملوك وملكات وآلهة — من مختلف عصور التاريخ المصري. من الأسر الأولى إلى الحكام البطلميين المتأخرين، تجسد هذه الشخصيات ليس فقط الروعة الفنية، بل أيضاً الديناميكية التاريخية والتحولات السياسية والدينية والاجتماعية في بلد النيل.. وبالتالي، فإن مجرد صعود الدرج هو بمثابة تكرار للسرد الأساسي للحضارة المصرية باعتبارها حضارة صعود وتحوّل وتجديد مستمر.

هذا التعبير عن الحركة والتحول يتجلى أيضًا في نقل وعرض قارب خوفو الشمسي. يبلغ عمر هذا القارب 4600 عام، والذي يفترض أنه نقل روح حاكم الإمبراطورية القديمة إلى الخلود.. ظل القارب معروضًا لعقود في صرح مجاور للهرم الأكبر. 

تم نقل القارب إلى قاعة مخصصة له، مزودة بنظام تحكم في درجة الحرارة حيث مثلت هذه المهمة  تحديات تقنية ومفاهيمية على حد سواء.. تم تنفيذ العملية في إطار الالتزام الصارم بقواعد الحفظ وذلك تحت إشراف اللواء مهندس عاطف مفتاح.

من ناحية أخرى، تجري عملية ترميم مركب الشمس الثانى أمام أعين الجمهور، مما يحول عملية الترميم  إلى تجربة تعلم وتفكير لزوار المتحف.

لا شك أن عرض مجموعة توت عنخ آمون هو الجانب الأكثر رمزية في النظام المتحفي للمتحف المصري الكبير.. لأول مرة منذ اكتشاف المقبرة في عام 1922، يتم جمع القطع الأثرية البالغ عددها 5398 قطعة والتي تم اكتشافها في وادي الملوك.. تتميز القاعتان الواسعتان اللتان تضمان هذه القطع بتصميم معماري جديد حيث تم وضع القطع في سياقها الجنائزي والرمزي، وتم تنظيمها وفقًا لمسار موضوعي وزمني في آن واحد. 

كما يستحضر هذا المسار الأبعاد والتضاريس الأصلية للمقبرة، مع تسليط الضوء على الابتكارات الحرفية والفنية والدينية في تلك الحقبة. إدارة المكان وكذلك الإضاءة المتطورة والتجسيدات الرقمية تتيح للزائر تجربة قريبة جدا من السياق الأصلي.

تأخذ الأيقونات المحيطة بتوت عنخ آمون بعدًا تفسيريًا جديدًا.. القناع الذهبى الشهير — الذي يمكن الوصول إليه من خلال مدخل مخصص لأولئك الذين يرغبون في مشاهدته على حدة — لا يختتم المعرض، بل يشكل ذروته، حيث يوجه الزائر نحو سردية متصاعدة. من بين القطع الأكثر إثارة للمشاعر تلك التي تكشف عن الجوانب الحميمة للحياة في البلاط الملكي مثل العرش الذهبي الذي يرمز للحب الملكي.

هناك ابتكار آخر طال انتظاره يتعلق بتسليط الضوء على الملكات. فمقبرة الملكة حتب-حرس، والدة الملك خوفو، تُعرض لأول مرة مع إعطائها الأهمية التي تستحقها بفضل قيمتها العلمية والتاريخية. تم اكتشاف هذه المجموعة في عام 1925، لكن طغي عليها الاهتمام الدولي بأكتشاف مقبرة توت عنخ آمون. تتيح اليوم هذة المجموعة إعادة تقييم النظم الاجتماعية والسياسية في الإمبراطورية القديمة، و أدوار الجنسين، والممارسات الجنائزية. 

وتنعكس أيضا ضخامة المتحف في صالاته المخصصة للعصور الأخرى: الإمبراطورية القديمة والمتوسطة والجديدة، بالإضافة إلى العصور المتأخرة واليونانية الرومانية. يتم عرض الخزفيات واللوحات والمومياوات والتمائم والمنحوتات الضخمة من خلال أسلوب عرض حواري يتيح قراءة متنوعة للعلوم والدين والفن المصري.

تؤكد المساحات الحديثة للغاية المخصصة لحفظ الاثار، والمتاحة للجمهور، على الدور المزدوج للمتحف: فهو مركز بحثي وأداة للدبلوماسية الثقافية في آن واحد.

تشكل التجهيزات التفاعلية والبرامج التعليمية والمؤتمرات العامة مساحة يتم فيها إعادة النظر باستمرار في الحدود الفاصلة بين البحث العلمي ومشاركة الجمهور والاكتشاف الشخصي. وبذلك يجسد المتحف المصري الكبير طموحه في أن يكون ليس فقط نصبًا وطنيًا، بل أيضًا نموذجًا للابتكار المتحفي ومكانًا لديموقرطية المعرفة.


د. زاهى حواس مع الفنان فاروق حسني

التراث والمسئولية.. المتحف كلاعب عالمي

لا تكمن الأهمية الدولية للمتحف المصري الكبير في مجموعاته الاثرية أو تميزه المعماري فحسب، بل أيضًا في تعبيره عن أخلاقيات جديدة للتراث الثقافي.. لم يكن قرار تأجيل الافتتاح الرسمي بسبب الصراع الإقليمي في غزة ولبنان مجرد مسألة علاقات عامة، بل كان لفتة غير مسبوقة، تعني أن الاحتفال بالنجاح الوطني لا ينفصل عن التضامن الإقليمي والإنساني الأوسع.

وكما عبر عن ذلك رئيس الوزراء مصطفى مدبولي، فإن مسؤولية مصر تجاه الآثار تتجاوز الحدود، مما يجعلها حارسة عالمية للعالم القديم.

ولن يكون الافتتاح الرسمي في 1 نوفمبر 2025 مجرد حدث وطني، بل سيكون حدثاً عالمياً. هذا الاحتفال الذي سيجمع قادة دوليين وباحثين وضيوفا عند سفح أهرامات الجيزة بمثابة تكريم لإنجازات مصر القديمة وتأكيد على الضرورات المعاصرة: السلام والتعاون الدولي وحق الشعوب في الوصول إلى تاريخها الجماعي.

يضع المتحف المصري الكبيرمعيارًا جديدًا في مجال السياحة المسؤولة ودبلوماسية التراث العالمي. تعكس هندسته المعمارية وتصميم صالات العرض وإستراتيجيات التواصل الحاجة إلى تحقيق التوازن بين الحفاظ على التراث وإتاحته للجمهور، وبين الفخر الوطني والتعاون الدولي. تشارك إدارة المتحف بنشاط في المناقشات الجارية حول تداول الآثار وإعادتها الي بلدانها الأصلية، والالتزامات الأخلاقية للبلدان صاحبة الآثار، ومخاطر تحويل الذاكرة الإنسانية إلي سلعة في السوق العالمية.

من خلال التركيز على الشفافية في حفظ الآثار، وإشراك الخبراء المحليين والدوليين على حد سواء، وإعطاء أهمية خاصة للبرامج التعليمية، يُظهر المتحف المصري الكبير وعيًا عميقًا بحقيقة أن إدارة الآثار هي في الأساس مشروع إنساني قائم على الثقة والالتزام المتبادل والسعي إلى المعرفة. يضمن كل من الإنتاج العلمي للمتحف واتفاقيات التعاون التي أبرمها والتزامه بإتاحة المعرفة للجميع أن يظل تاريخ مصر القديم في صميم الحوار الأكاديمي والثقافي العالمي.

وإلى جانب أهدافه الثقافية والعلمية، من المتوقع أن يكون للمتحف المصري الكبير تأثير اجتماعي واقتصادي على الصعيدين المحلي والوطني..  فقد خلق بناء وتشغيل المتحف آلاف الوظائف، بدءًا من المراحل الأولى من حفرالموقع والبناء المعماري وحتى الوظائف الدائمة في مجالات حفظ الآثار والسياحة والأمن وإدارة المتحف.

وقد شهدت الشركات المحلية من حرفيين ومقدمي الخدمات الفندقة والنقل زيادة ملحوظة في نشاطها الاقتصادي مع اقتراب موعد الافتتاح الكامل للمتحف.

باختصار، إن المتحف المصري الكبير هو تعبير لا مثيل له عن الهوية والطموحات الحديثة لمصر. إنه في الوقت نفسه نصب تذكاري لأمجاد الماضي، ومختبر للحاضر، ووعد للأجيال القادمة. إن إنجازه في فترة من عدم اليقين الإقليمي والتوتر الاقتصادي الوطني هو في حد ذاته عمل شجاع ثقافيًا، يؤكد من جديد المبدأ العالمي القائل بأن قيمة الحضارة لا تقاس فقط بإنجازاتها المادية، بل أيضًا بمدى حفاظها على أسس التجربة الإنسانية ونقلها. 

مع فتح المتحف أبوابه للعالم، فإنه لا يوفر فقط نافذة على مصر القديمة، بل يقدم أيضًا نموذجًا لكيفية تعامل الأمم والشعوب مع تاريخها بدقة وتواضع والتزام لا يتزعزع بأسمى مُثُل التراث الإنساني المشترك.

ومن المقرر أن يصبح المتحف، بلا منازع، الأكبر من نوعه على الإطلاق، وهدية مصر للعالم.


د. زاهي حواس

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة