يقف المتحف المصري الكبير تحت ظلال أهرامات الجيزة، شاهدا على عظمة تاريخ بعيد وداعيا زواره إلى اختيار مسارهم الخاص لاستكشاف أعماق الحضارة المصرية القديمة وفك أسرارها. من داخل هذا الصرح، يتلاشى التسلسل الزمني الخطي، وتتداخل الموضوعات بانسجام، ويصبح الماضي حاضرا وكأنه يتنفس من ثنايا الحجر، لتبدأ الجولة.
موضوعات مقترحة
الانطباع الأول الذي يتركه المكان هو اتساعه الشاسع وطغيان حضوره المعماري. في الخارج، تستقبلك ساحة مترامية الأطراف، تؤذن ببدء تجربة المتحف، ترتفع فيها بفخر مسلة الملك رمسيس الثاني، كتلة واحدة من الجرانيت الوردي، تحاكي شعاع الشمس للإله رع، تصل الأرض بالسماء، متحديا الجاذبية والزمن، وقد نقشت على قاعدتها خراطيش الملك التي تخبر بخلوده عبر العصور. وعند اجتياز الواجهة العملاقة للمتحف، التي تمتد لحوالي 800 متر، يدخل الزائر إلى القاعة الرئيسية (الأتريوم).
هنا، تحت إضاءة مُصممة بدقة، يقف رمسيس الثاني بنفسه. يفرض التمثال الضخم الذي يزن 83 طنا والمصنوع من الجرانيت الوردي، صمتا وهيبة وكأن نظراته تخترق الجدران باتجاه منف (ممفيس) العاصمة القديمة حيث تم اكتشافه قبل قرن من الزمان. إنه عبور إجباري أمام الحاكم صاحب أطول فترة حكم، التي امتدت 67 عاما. وعلى بعد أمتار قليلة منه، يطل تمثال لزوجين من العصر البطلمي، بينما تواجهه مجموعة تماثيل سنوسرت الأول في الاتجاه الآخر.
من هنا، عند سفح العملاق الحجري، تبدأ الجولة بخيارات متعددة. إلى اليسار، يصعد الدرج العظيم، واعدا بالوصول إلى المعارض الرئيسية. بينما إلى اليمين، توفر منطقة المطاعم فرصة للراحة قبل مواصلة الرحلة. وعلى الجهة المقابلة للمدخل، إذا اجتزت كامل القاعة الباحة الداخلية المتحف، يوجد مبنى منفصل يستوجب التوقف عنده. يضم هذا الجناح مراكب الشمس للملك خوفو، المصنوعة من خشب الأرز اللبناني، والتي شُيدت لنقل الملك-الاله إلى العالم الآخر.
يتضمن الجناح مركبتين: إحداهما نُقلت من المتحف الشمسي القريب من الأهرامات، وهي قطعة أثرية أُعيد ترميمها وعرضها بدقة متناهية. والأخرى لا يزال قيد الترميم، ما يمنح الزائر فرصة نادرة لمشاهدة عملية إحياء مركب يعود تاريخه إلى 4600 عام، وسرعان ما سيصبح جزءا لا يتجزأ من تجربة المتحف. هذا الجناح، على الرغم من كونه خارج الهيكل الأساسي للمتحف، يُعد محطة أساسية، لا غنى عنها.
الدرج العظيم: رحلة نحو الخلود
إذا اختار الزائر البقاء في القاعة الرئيسية عند سفح رمسيس، ينجذب بصره تلقائيا نحو الدرج العظيم، أبرز المكونات المعمارية للمتحف ونقطة الانتقال المركزية داخله.
صعود الدرج هنا ليس مجرد انتقال جسدي، بل هو عبور رمزي عبر محور عمودي يربط بين السماء والأرض، بين الحياة والفناء. رحلة ترتقي بالزائر، تماما كما سعى المصري القديم لأن نتطلق وتصعد روحه نحو عالم الخلود. رحلة الحياة الأبدية. يوفر هذا الدرج إطلالة على القاعة الكبرى في الأسفل، ويُتوج قمته بمشهد بانورامي على الأهرامات الثلاثة وهي ترتفع في الأفق في مشهد يحبس الأنفاس.
تم تصميم صعود الدرج المكون من 108 درجات وفق أربعة محاور موضوعية متصاعدة، يفتح كل منها نافذة على فلسفة مصرية مختلفة. يبدأ المسار بـ"الهيئة الملكية"، لاستكشاف كيفية بناء الهوية الفرعونية، ثم ينتقل إلى "الدور المقدسة"، أو أماكن العبادة التي شيدها الملوك سواء لهم أو للمعبودات الأماكن أقام فيها الملوك الطقوس لإرساء النظام الكوني، أو لإقامة عبادة الأسلاف الملوك. بعد ذلك، يأخذ الزائر إلى محور "الملوك والمعبودات"، الذي يكشف العلاقة الرمزية بين الملك والإله، وكيف كان الوسيط الوحيد وضامن النظام الكوني (ماعت). وتختتم الرحلة بمحور "العبور إلى الحياة الأبدية"، مستعرضة التوابيت والطقوس الجنائزية التي كانت تُعد للملوك لعبور العالم الآخر.
على طول هذا المسار التاريخي، تتجاور قطع أثرية نادرة: تابوت تحوتي، تابوت تحتمس الأول، أعمدة الملك ساحورع، بوابة أمنمحات الأول، ناووس سنوسرت الأول، مائدة قرابين أمنمحات السادس، أو قمة مسلة حتشبسوت وتمثال للملكة التي حكمت كرجل وتمثال الملك خفرع جالساً يرتدي المئزر المطوي؛ وتمثال من الجرانيت الوردي للملك سيتي الأول؛ وآخر من الكوارتزيت للملك سنوسرت الثالث؛ ورأس منحوت للملك إخناتون، الذي كان جزءاً من تمثال ضخم في أعمدة معبد آتون بالكرنك، أمنحتب الثالث مع المعبود رع حور آختي وبطبيعة الحال، يحضر رمسيس الثاني مجددا، ولكن هذه المرة محاطا بالآلهة: بتاح، إله الخلق، وسخمت، إلهة الحرب والشفاء.
المجتمع، الملكية، والمعتقدات
ما إن يبلغ الزائر قمة الدرج العظيم، حيث الأفق يتسع على الأهرامات، حتى يجد نفسه أمام خيارٍ جديد: أن ينعطف يساراً نحو القاعات الاثنتي عشرة الكبرى التي تشكل قلب المتحف المصري الكبير النابض. فضاء يمتد على أكثر من 18 ألف متر مربع من المعروضات، ومسارا زمنيا يمتد لأكثر من 700 ألف عام من التاريخ المصري، منذ عصور ما قبل التاريخ حتى العصر الروماني.
وقد تم تصميم هذا المسار بعناية هندسية ومفاهيم دقيقة، يجمع بين الترتيب الزمني والبناء الموضوعي، ليقدم تجربة فكرية وجمالية تتشابك فيها ثلاث محاور رئيسية: المجتمع، والملكية، والمعتقدات.
في محور "المجتمع"، تتجلى ملامح الحياة المصرية في تفاصيلها اليومية: أدوات الزراعة والنسيج، أواني الطعام، الحُليّ، وألعاب الأطفال. إنها الحياة كما عاشها الناس، لا كما خلدها الملوك. من خلال هذه القطع، يعيد المتحف سرد الحكاية الإنسانية في مصر القديمة، حكاية الإنسان الذي حرث الأرض، وسكن النيل، وصاغ جماله في الطين والنحاس والحجر.
أما محور "الملكية" فيعيد رسم معاني السلطة والهيبة عبر الأُسر المتعاقبة. هنا يتتبع الزائر فهم تطور فكرة الحكم الإلهي، وكيف تحول الملك من وسيط بين الآلهة والبشر إلى إله ورمز مؤسس للهوية المصرية ذاتها.
ثم يأتي محور "المعتقدات"، حيث ينفتح الفضاء على ما وراء الزمن. في هذا الجزء، تتجاور النصوص الجنائزية وأدوات الطقوس، في سرد متصاعد للفكر الديني المصري حول الخلق والموت والبعث. إنه عالم من الرموز والعقائد التي صاغت علاقة المصري القديم بالكون، وعبرت عن سعيه الدائم نحو الخلود.
هذه القاعات ليست مجرد معروضات متجاورة، بل سردية متكاملة تتيح للزائر أن يعبر الزمن بطريقتين: أفقيا، متتبعا التسلسل التاريخي، أو عموديا، متوغلا في عمق أحد المحاور الثلاثة ليستكشف جوهرها.
جوهرة المتحف: الفرعون الصغير
أما من اختار الاتجاه إلى اليمين، بدلا من دخول القاعات الكبرى، فسيجد نفسه أمام درّة المتحف المصري الكبير، الجناح المخصص بالكامل للفرعون الطفل توت عنخ آمون، تلك الأيقونة التي لا تزال حتى اليوم تُجسّد دهشة الاكتشاف الأول وسحر الغموض الأبدي.
ليست هذه القاعة مجرد تجميعٍ للقطع الذهبية التي أُخرجت من مقبرته بوادي الملوك عام 1922، بل هي رحلة متدرجة في جوهر الأسطورة، تنقسم إلى خمس محطات تحاكي حياة الملك القصيرة وخلوده الطويل.
في قسم "الهوية"، يتعرف الزائر إلى نسب الفرعون وأصوله، وملامح طفولته الغامضة، وسر صحته الهشة التي شكلت قدره. ثم ينتقل إلى " الحياة اليومية"، حيث تُعرض مقتنيات القصر الملكي: الحلي الدقيقة، والألعاب، والنعال الذهبية، والأدوات الشخصية التي تعيد إلى الأذهان حياة تجمع بين الفخامة والبساطة.
أما في محور "الطقوس الجنائزية"، فيغوص الزائر في إيقاع طقسي مهيب: موائد قرابين، تمائم واقية ونقوش مقدسة، توابيت وأثاث جنائزي جميعها تشهد على عمق الإيمان المصري بأن الموت ليس نهاية بل عبور نحو الأبدية. ويليها محور "البعث"، الذي يستعيد فكرة البعث والحياة المتجددة في المعتقد المصري، حيث تتحول الرموز إلى لغة روحية وتتجاوب الرموز المقدسة والأدوات الطقسية مع فكرة استمرار الوجود.
وتختتم التجربة بمحور "الاكتشاف"، الذي يعيد سرد الملحمة التي قادها هوارد كارتر عام 1922، حين أزاح الرمل عن باب مغلق منذ أكثر من ثلاثة آلاف عام في وادي الملوك، ففتح للعالم نافذة على دهشة الخلود.
يضم لجناح أكثر من 5600 قطعة، كثير منها يُعرض لأول مرة. تتألق بينها رأس نفرتوم المصنوعة من الخشب والمطعمة بالألوان، تمثل توت عنخ آمون في هيئة إله الشمس عند الفجر، والدرع الذهبي المرصع بالأحجار الكريمة، والعربة الملكية، والعرش المذهب، والتوابيت المرصعة بالذهب، وصولا إلى القناع الجنائزي الشهير الذي أصبح رمزاً خالداً لمجد مصر القديمة. إن الدقة في العرض تبلغ حد الإيحاء بأن الفرعون لا يزال حاضرا، يتأمل زواره من وراء كنوزه.
دائرة الزمن
المتحف المصري الكبير لا يقدم مسارا واحدا للزيارة، بل كونا من المسارات الممكنة، يمكن للزائر أن يشكل منها تجربته الخاصة. يمكن أن يقضي يوماً كاملا في التجول بين القاعات الاثنتي عشرة، أو أن يكتفي بالوقوف عند تمثال رمسيس الثاني في أسفل الدرج، متأملا صموده الحجري أمام قرون الزمن، قبل أن يتجه نحو جناح المراكب الشمسية حيث تعود إلى الحياة مركب فرعونية أبحرت في سماء الخلود منذ آلاف السنين ثم ينهي رحلته أمام الواجهة الزجاجية الكبرى المطلة على الأهرامات.
وقد يختار آخرون أن يكرسوا يومهم كله لجناح توت عنخ آمون. أو ربما يتوجهون إلى القاعة الافتراضية التي تقدم تجربة رقمية، تتيح الغوص في العوالم القديمة عبر الوسائط التفاعلية، ومنها ينطلقون خارجا إلى معامل الترميمٍ لمتابعة عملية إحياء القطع الأثرية ويشاهدون المرممين وهم يعيدون الزمن إلى الوراء بأيديهم.
ير أن المتحف يبدأ وينتهي تحت نظرة رمسيس الثاني. عند مخرج المنطقة التجارية، يقف تمثال عملاق ثان للملك العظيم، شامخا كحارس يودع الزائرين كما استقبلهم، حافظا لذاكرة مصر الأبدية، شاهدا على أن الزمن في هذا المكان لا يزول.
نقلا عن الأهرام إبدو
رحلة الخلود في المتحف المصري الكبير
رحلة الخلود في المتحف المصري الكبير
رحلة الخلود في المتحف المصري الكبير