في الظل بناة الخلود

30-10-2025 | 20:27
في الظل بناة الخلودفي الظل بناة الخلود
دينا درويش

تحكي قصة بناء المتحف المصري الكبير (GEM) حكاية مغامرة إنسانية فريدة، سواعد مجهولة منحت الحياة لمشروع وطني غير مسبوق. رجال ونساء كتبوا، حجرًا بعد حجر، صفحة جديدة في ذاكرة مصر الخالدة.

موضوعات مقترحة

تبدو تجربة عمّال المتحف المصري الكبير (GEM) وكأنها نَفحة من نفحات زمن الفراعنة.

فمنذ آلاف السنين، كانت النقوش الجدارية على المقابر تروي حكاية قريةٍ بأكملها كرّست لهؤلاء العمّال المجهولين، الذين شاركوا فى بناء الأهرامات. واليوم، يبدو أن التاريخ يُعاد كتابته بلغةٍ معاصرة تنبض بالحياة.

يقول هشام حاكم، عضو اللجنة الهندسية بالمتحف المصري الكبير وباحث دكتوراه في إدارة التراث والمتاحف:

"في كواليس المتحف المصري الكبير، أنجز جيش صامت من العمّال القادمين من المناطق المجاورة معجزةً حقيقية. لقد صنعوا المستحيل بعرقهم وصبرهم؛ إذ خُصص ما يقرب من 114 ألف ساعة عمل منذ عام 2012، موزعة على ثلاث مراحل رئيسية، شارك في كل منها ما بين 3 آلاف و5 آلاف عامل."

ورغم أن أيديهم لم تخلّد على الحجر، إلا أن أثرهم سيبقى منقوشًا في ذاكرة المكان، في صرحٍ بُني ليكون بيتًا للذاكرة المصرية وأيقونةً لعمل الإنسان وإرادته.

بدأت القصة قبل أكثر من عقدين من الزمان. فعلى الرغم من أن أعمال البناء التي انطلقت عام 2006 شهدت تباطؤًا بسبب الاضطرابات الجيوسياسية، فإن المشروع استعاد زخمه بفضل قرار رئاسي حاسم صدر عام 2014 يقضي بإنجاز جميع المشروعات الاستراتيجية المعلّقة.

منذ تلك اللحظة، تغيّر مسار المتحف المصري الكبير (GEM)؛ إذ لم يعد الهدف مجرد إقامة صرح وطني ضخم، بل تحويله إلى مشروع حضري حيّ، متجذر في أرضه، منسجم مع محيطه وسكّانه، لا بناء مفروض عليهم من الخارج.

أصبح المتحف بذلك رمزًا لتصالح العمارة مع البيئة، ولحوارٍ جديد بين المكان والإنسان، حيث يلتقي التاريخ العريق برؤية مصر الحديثة.

يقول اللواء عاطف مفتاح، المشرف العام على مشروع المتحف المصري الكبير (GEM) والمنطقة المحيطة به، والذي تولي تنفيذ الأعمال منذ عام 2016:

"أردنا أن يشعر سكان القرى المجاورة بأنهم جزء لا يتجزأ من هذه التجربة. ولهذا السبب أعطينا الأولوية لتوظيفهم، مقدمين لهم فرصًا قادرة على تغيير حياتهم اليومية. لم يعد الأمر مجرد بناء متحف، بل فتح آفاق جديدة، وإقامة صلة حية بين المكان وسكانه، وهو أحد المعايير الأساسية لليونسكو من أجل التنمية المستدامة."

ويضيف اللواء مهندس عاطف مفتاح أن تنمية المنطقة المحيطة بالمتحف تتجاوز فكرة التوسع العمراني، إذ تمثل فرصة حقيقية لتحسين حياة سكان القرى القريبة مثل كفر غطاطي وكرداسة وكفر الجبل وأبو رواش. ومن خلال دمج هذه المجتمعات في جميع مراحل المشروع، من البناء إلى التشغيل، يسعى المتحف إلى خلق آلاف فرص العمل المباشرة وغير المباشرة، بما يضمن دخلاً مستدامًا ومستقبلاً أفضل.

هكذا، لم يعد المتحف مجرد صرح ثقافي، بل أصبح مشروعًا إنسانيًا وتنمويًا، يعيد تعريف العلاقة بين التراث والمجتمع.

"أردنا ألا يكون المتحف عائقًا أمام السكان، بل نافذة للأمل والآفاق لجميع الذين يعيشون حوله"،

هكذا يؤكد اللواء عاطف مفتاح، موضحًا أن التوظيف المحلي يشكل جوهر الاستراتيجية التي جعلت من المتحف المصري الكبير محركًا اقتصاديًا واجتماعيًا حقيقيًا للمجتمعات المحيطة به. فمن خلال فتح فرص العمل والتدريب أمام أبناء القرى المجاورة، لم يعد المتحف مشروعًا هندسيًا فحسب، بل أصبح جسرًا بين التراث والحياة اليومية، يجمع بين ذاكرة الماضي وإمكانات المستقبل.

تجربة فريدة فخر مشترك

اليوم، فتح هذا المشروع الكبير أبوابه أمام العديد من سكان المناطق المجاورة. وقد ساهم الجميع، كل على طريقته، في بناء هذا العمل الضخم: كهربائيون، ميكانيكيون، مرشدون، آثاريون... دون أن ننسى المهن التي غالباً ما تكون غير مرئية ولكنها أساسية: الصيانة، البستنة، التنظيف. سلسلة بشرية طويلة، لا تنفك حلقاتها تتزايد، تنسج يومًا بعد يوم الروح الحية للمتحف.

ولكن في الواقع، لم يقتصر دور المتحف على توفير فرص عمل للعمال فحسب، بل كان بالنسبة للكثيرين منهم بمثابة مدرسة حقيقية، ومكان للتعلم والكشف والتحول. بالنسبة لإسحاق بشرى، المشرف العام على أعمال الكهرباء، الذي يعمل في الموقع منذ أكثر من عشر سنوات، فالمشاركة فى بناء هذا الصرح يعد أكثر من مجرد مشروع مهني. ” المتحف  بالنسبة لنا كان هبة من السماء“، هكذا يعرب بشرى الذى يؤكد أنه وصل إلى المتحف كعامل بسيط، وخرج منه كرئيس متمرس، يتمتع بمعرفة نادرة. ”على الرغم من أنني حظيت من قبل بفرص في مشاريع كبرى أخرى، إلا أن حياتي تغيرت هنا، في المتحف الكبير إنها قصة سأرويها لأولادي، ولاحقاً لأحفادي“.

يتذكر تحديًا معينًا شكّل نقطة تحوّل في مسيرته المهنية: «كانت تلك المرة الأولى التي أعمل فيها في مبنى مستوحى من شكل الهرم. كانت أعمال الكهرباء فيه غير عادية. قضيت ستة أيام كاملة في دراسة اللوحات الكهربائية وتصميم المتحف وإحداثيات الموقع. كان كل شيء يعمل وفقًا لمنطق جديد ومعقد، وهذا ما مكنني من اكتساب خبرة فريدة من نوعها".

ولكن بعيدًا عن المخططات والكابلات، كان ما أثر فيه بعمق هو التعرف عن قرب على التراث الثقافي للبلاد. "لقد حظيت بفرصة مشاهدة وصول تمثال ضخم كرمسيس الثاني إلى بهو المتحف، ووضع قطع نادرة في صالات العرض، ونقل القوارب الشمسية... هذه مشاهد ستبقى محفورة في ذاكرتي. لقد علمتني شيئًا أساسيًا: الفخر بالانتماء إلى مشروع بهذه الضخامة، مشروع لن يتكرر أبدًا في الحياة".

إحياء الروح الوطنية

على غرار أي مشروع وطني كبير قادر على توحيد المصريين حول حلم مشترك، من خلال إزالة جميع الحواجز، يبدو أن المتحف الكبير قد حقق هذا النموذج. فهو يحيي، بطريقته الخاصة، روح الستينيات، وهي الفترة التي كان فيها الزخم الجماعي مدفوعًا ببناء السد العالي في أسوان، مع شباب متحمس لنفس المثل الأعلى. بالنسبة للكثيرين، تكمن الإجابة على المأزق الحالي في القدرة على توحيد الشباب حول هدف ذي مغزى، مشروع واسع النطاق قادر على إعادة تنشيط الشعور بالانتماء. وفقًا لعالم الاجتماع كريم سالم، نجح مشروع في إحياء هذا الشعور العميق، الذي طالما خمد تحت غبار الخطابات المتشددة و دعوات الفرقة. إذ بث المتحف روحا تعيد إحياء طاقة حقيقية وشعبية، ظلت طويلاً مهمشة في صمت. ”أنا مسلم، وإسحاق مسيحي. ولكن هنا، في هذا الموقع، عملنا جنباً إلى جنب لسنوات تعلمنا ان ننبذ اى اختلافات نحن مصريون وكلنا  فى خندق واحد تشاركنا سويا أياماً عديدة أطول من تلك التي قضيناها في منازلنا“، هكذا يروي أحمد شعيب، أحد الفنيين العاملين فى هذا المشروع . "فمنذ عام 2012، نقضي أكثر من ثماني ساعات في اليوم، عمل دون توقف. "بفضل العيش معًا ومواجهة التحديات جنبًا إلى جنب، أصبحنا عائلة. لن يكون يوم مغادرتنا هذا المكان سهلاً. لكن ما بنيناه يتجاوز جدران المتحف: إنه روابط قوية، وأخوة صقلتها الغبار والخرسانة”، هكذا يقول شعيب. ويضيف: “هنا، تشاركنا أكثر من مجرد المهام: تناولنا الطعام معاً، وشربنا الشاي في الاستراحة، وأحياناً تشاجرنا. لكن كل اختلافاتنا كانت تتلاشى عندما يتعلق الأمر بحل مشكلة فنية. في حالات الطوارئ أو التعقيدات، كان كل ما يهم هو ما يمكن أن يقدمه كل فرد”. تامر غنيم، مشرف أعمال الميكانيكا والسباكة وتكييف الهواء في المتحف، يشاركه هذا الرأي: “لا شك أن هذا المشروع الوطني كان له تأثير أكبر من حملات التوعية التي تم إطلاقها".

نافذة على المستقبل

لكن المهن التقنية ليست الوحيدة التي تستفيد من هذا المشروع، كما يشير الدكتور محمد جمال، أحد سكان حي الهرم المجاور، حيث يمتد تأثير المتحف إلى الحياة اليومية. ويصف ذلك بأنه  يشكل أفق جديد لجيل كامل. إنها منطقة بأكملها تستيقظ اذ تتجسد الأحلام في ورش الخياطة ومحلات بيع التذكارات. " يعد المتحف الكبير بمثابة نقطة تحول في حياتي، على الصعيدين المهني والشخصي. هنا خطوت أولى خطواتي في عالم المتاحف. بعد تخرجي من كلية الآثار بجامعة القاهرة في عام 2008، حظيت بفرصة الانضمام إلى هذا المشروع الطموح. هناك اكتشفت، من الداخل، كيف تولد المؤسسات الثقافية الكبرى، بمستوى من الدقة والجودة والمنهجية لم أكن لأتمكن من ملاحظته في أي مكان آخر”، يشرح الدكتور محمد جمال، منسق متاحف ونقل الآثار بالمتحف الكبير. يروي بعاطفة تلك السنوات الحاسمة: “ كنا جميعًا متحمسين لمهمة مشتركة: إقامة متحفا استثنائيا سيكون أحد أعظم هدايا مصر للعالم. نافذة على تراثنا، وشهادة على عظمة الحضارة المصرية”. ويعتقد أن العمل في هذا المتحف قد غذى أيضًا فخره الأكاديمي. “عندما كنت أعدّ رسالة الماجستير، كان أساتذتي معجبين بمشاركتي في هذا المشروع. في ألمانيا والولايات المتحدة، في إطار برنامج IVLP (برنامج الزوار الدوليين للقيادة)، شعرت بمدى إعجاب العالم بهذا المتحف خارج حدود مصر "، في اللجنة الفنية، تولي الدكتور محمد جمال الإشراف على جميع العمليات المتعلقة بتصميم المتحف: تجهيز القاعات، تركيب واجهات العرض، تنسيق النقل الدقيق للقطع الأثرية. ”عمل شاق، شارك فيه مرممون ومحافظون ومهندسون ومعماريون ولوجستيون“، هكذا يمضي مضيفا : ”كان مشروعًا إنسانيًا معقدًا ومثيرًا، قمنا به حتى اللحظة الأخيرة. اليوم، مع الافتتاح الرسمي، نحن على يقين من أن العالم بأسره سينظر بإعجاب إلى هذه التحفة الثقافية“. 

وليس هذا فحسب، فالمتحف المصري الكبير لا يقتصر على كونه صرحًا ثقافيًا أو معلمًا أثريًا، بل يمكن أن يتحول أيضًا إلى محفّز حقيقي للتنمية المحلية عبر متجر الهدايا التذكارية الخاص به. هذا الفضاء، الذي يُفترض أن يعرض منتجات حرفية صنعتها نساء القرى المجاورة، سيكون امتدادًا إنسانيًا لرسالة المتحف، وجسرًا بين الماضي والحاضر.

تخيل رفوفًا تفيض بـ تطريزات دقيقة، وفخاريات مشغولة بحس شعبي، ومنسوجات يدوية، وأدوات من سعف النخيل تحمل في كل خيط وحبة طين ذاكرة أجيال. من خلال هذه المبادرة، لن يكون المتحف مجرد واجهة لعرض التاريخ، بل منصة لدعم نساءٍ غالبًا ما وُضعن في الهامش الاقتصادي، ومنحهن مورد رزق مستدام وفرصة للظهور أمام العالم.

ففي هذا النموذج الجديد، يتحول متجر البيع من مساحة استهلاكية إلى أداة إدماج اجتماعي واقتصادي، تربط بشكل ملموس بين التراث المادي واللامادي، بين واجهات الماضي والأيدي المعاصرة التي تواصل، بإصرار وكرامة، الحفاظ على روح الحرفة المصرية القديمة.

وبذلك، يصبح متحف «المتحف المصري الكبير» مرآة لمصر الحيّة التي صاغتها أيدي أبنائها. فكل حجر وُضع، وكل كابل مُدّ، وكل ابتسامة تبادلها العاملون في موقع البناء، تحكي قصة عن الصمود والأخوّة والأمل. في هذا الفضاء الذي يلتقي فيه الماضي بالمستقبل، يقف الرجال والنساء القادمون من القرى المجاورة كحَمَلةٍ لروح المشروع الحقيقية. ومن خلالهم، يغدو المتحف أكثر من مجرد مبنى؛ يتحول إلى جسر بين الأجيال، وإلى قصيدةٍ في الإبداع الجماعي الذي يصوغ ملامح المستقبل.

نقلا عن الأهرام إبدو


في الظل بناة الخلودفي الظل بناة الخلود

في الظل بناة الخلودفي الظل بناة الخلود

في الظل بناة الخلودفي الظل بناة الخلود
كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة