كنت هناك في المتحف المصري الكبير

30-10-2025 | 18:05

كنت هناك، حين كان الموقع لا يزال بكرا، تمتد فيه الرمال على مدد البصر، تملؤه أصوات الحلم والعمل. فلم تكن الصحراء ساكنة كما بدت للناظرين، بل كانت تشتعل بالحماس تحت أقدام العمال المخلصين، وبشارات الأمل في العيون. الهمة تشكل المكان رويدًا رويدًا، حجراً فوق حجر، فكرةً فوق فكرة، حتى صار الحلم أقرب إلى المعجزة.

بجوار الأهرامات الثلاث، كان المصريون يبنون هرمهم الرابع منذ عشرون عاما، تحت حرارة شمس حارقة تراقبهم نهارا  من علٍ، ونسائم ليل طويل تمرّ على وجوههم المرهقة وكأنها تباركهم في صمت. هناك، اعادت مصر صياغة تاريخها القديم ، ونسجت خيوط الخلود من الجديد .

واليوم، يقف المتحف المصري الكبير، عمرت الرمال وعلا البناء، ولايزال العمل دؤوبا، صرح صنعه المصريون من ضوء عيونهم وعرق قلوبهم. كل خطوة في ممراته تحمل حكاية، وكل زاوية تهمس بحلم عاشوا معه طويلاً في خيالهم حتى صار اليوم المنتظر بافتتاحه حلما تخفق له قلوب مئة مليون ويزيد .

الحالة داخله لا توصف. الهواء مختلف، له رائحة لا تشبه أي مكانٍ آخر، وأمام تمثال رمسيس الثاني، يتوقف الزمن. هذا الملك الفاتن الشامخ، الذي يملأ البهو بهيبته وجلاله، يطلّ عليك وكأن بينكما حكاية قديمة. تشعر أنه منك وانت منه، هو لك الأقرب والأقدم والأعظم. تقف أمامه مبهورًا، وتكاد تسمع صوته، صوت الملوك حين يتحدثون عن الخلود. ترى فيه الحاكم والفنان والمحارب والعاشق في آنٍ واحد. وكلما نظرت في عينيه ازداد يقينك بأن مصر لا تلد إلا العظمة.

والمدهش ان المتحف لا يتركك بسهولة. بل يبقى أثره حيا كأنك عدت من لقاءٍ غامضٍ آسر لم ولن تنساه. وجوه الملوك ترافقك، نظراتهم، رائحة الحجر، لمعان الذهب والجعران والياقوت. ذلك الأثر هو ما أسميه “السحر العظيم”. سحرٌ لا يشبه سحرًا آخر، يتسلل بهدوءٍ إلى العمق، يستقر هناك، ويوقظ فيك ما كنت تظنه قد غفا من حنين لجذر قديم.

قصة بناء المتحف ملحمة تضاهي بناء السد العالي وحفر قناة السويس، فقبل ان يكون المتحف هدية مصر للعالم ، فه هدية المصريون لأنفسهم اولا، يستشرفون به جذورهم، ويستبشرون به حاضرهم ومستقبلهم، فالعظمة لا تكمن فقط في الاثار والكنوز، بل في الرحلة التي واجهت صعوبات وأهوال، ثورات وكورونا وازمات اقتصادية عالمية، حتى واجهت خطر الالغاء او التوقف التام لبرهة، حتى أمدّه الرئيس عبد الفتاح السيسي بروحه وإرادته، فكان الراعي الذي منح الحياة والاستمرارية  لهذا المشروع العظيم، فنهض المتحف من الفكرة إلى الخلود، من الحلم إلى الحقيقة، ليصبح شهادة على أن مصر حين تؤمن بشيء، تمنحه الحياة الأبدية.
كما ان بلادي الأصيلة، لا تنسى روادها،  بل تقدر وتبجل كل عالم بمجال علمه، لهذا قدرت الدولة المصرية دوما من بدأو الرحلة والفكرة وأصحاب البصمة الأولى، الذين أطلقوا شرارة الحلم ايماناً بأن الثقافة وجه الوطن الباقي، فزرعوا الفكرة التي أينعت بعد حين، وها هي اليوم تلمع كشمس مضيئة تشق عتمة عالم أرهقته الصراعات .

في المتحف الكبير تتجلى معاني التفاني والعطاء، معاني الحضارة والخلود والسلام. إنه مساحة من النسيج المصري تمتد من قلب التاريخ إلى قلب المستقبل. فالحضارة حياة تتجدد، هنا تتجاور وجوه الملوك مع وجوه الزائرين، وتتعانق الأرواح في صمتٍ مطمئنٍ يليق ببلدٍ عرفت معنى الخلود قبل أن يُكتَب التاريخ.

وها هي الأهرامات اليوم تطلّ عليه من الأفق، تراقبه بفخرٍ ورضا، كأنها تقول له، لقد طال انتظارك يا بيت المصريين، يا ابن الحضارة البكر، ويا رسالة الخلود والسلام إلى العالم.

كل المصريين ينتظرون لحظة الافتتاح كمن ينتظر لقاء حبيب، ومعهم ينتظر العالم كله، ليس فقط لأنه المشروع الثقافي الاهم في هذا القرن، و عدد القطع المذهل، وموقعه الاستثنائي، و مواصفاته العصرية الفائقة الدقة.. وغيرها من أركان عظمة صرح يطول شرحها وانما يظل الاهم من بين كل ذلك هو ذلك الإلهام والسحر والخلود والبهاء الذي لا يضاهى ولا يتكرر، وكانما المتحف يعيد للعالم العجوز صباه من جديد، يحمل سر الحياة واكسيرها.

"أنا تاريخي مالي المتحف، أنا تاريخي مالي الدنيا"، هذه رسالة المتحف المصري الكبير، حيث تسكن مصر الكبيرة الخالدة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
معًا.. لكل الدنيا

لم تتملكنى كل تلك المشاعر دفعة واحدة من قبل حماس، تساؤل، رهبة، توجس، سعادة، حنين، امتنان، وانطلاق.. كلها تكاد تتوازى وتناطح بعضها بعضاً، كيف لا وأنا أخطو بخطوات هادئة نحو مساحة استثنائية

الأكثر قراءة