استعادت مركب الملك خوفو، التي يعود تاريخها إلى أكثر من 4500 عام، مجدها في المتحف المصري الكبير.
موضوعات مقترحة
بعد أن ينهي الزائر جولته في القاعة الرئيسية للمتحف المصري الكبير، يمكنه التوجه نحو الجهة الغربية لاكتشاف مبنى آخر أصغر حجماً مخصص بالكامل لمراكب الملك خوفو.
وبين المبنيين، تستقبله تماثيل الإله حابي، رمز نهر النيل، حيث يتدفق ماؤه من الجنوب نحو الشمال. وعلى الجانبين، تصطف عشرة تماثيل للإلهة سخمت وكأنها تحمي وتغذي فيض النهر العظيم.
قبل دخول المتحف، يشاهد الزائر حفرة تحتوي على 18 كتلة حجرية: خمس منها نُقلت من الحفرة التي عُثر فيها على المركب الأولى، وثلاث عشرة من حفرة المركب الثانية.
وتُعرض هذه الأحجار لأول مرة، وهي منقوش عليها أسماء الملك خوفو وابنه، مما يؤكد أن هذه السفن كانت مخصصة لهما.
داخل المتحف، تتم الزيارة عبر ثلاثة مستويات. يبدأ المسار باتجاه واحد يتيح للزائر التعرف من خلال نقوش جدارية على معلومات حول هضبة الأهرامات، وطرق التنقيب والترميم التي خضعت لها المراكب حتى وصولها إلى المتحف الكبير.
ومع الصعود، يُدهش الزائر بعظمة مركب خوفو التي وُضعت على هيكل معدني ضخم يهيمن على المكان.
وعند الوصول إلى المستوى الثالث، الأعلى، يمكنه تأمل السفينتين معاً، حيث لا تزال الثانية قيد الترميم. يقول هشام الحاكم، منسق عام المتاحف بالمتحف المصري الكبير: "يرتكز المفهوم المتحفي للزيارة على أن يشاهد الزائر مركب مكتمل وآخر لم يكتمل بعد، فيتعرف بذلك مباشرة على مراحل الترميم الجارية. ستستغرق عملية التجميع والترميم بين ثلاث وأربع سنوات، وسيتمكن الزائر في كل مرة من رؤية مرحلة جديدة من العمل".
الرحلة المقدسة نحو الشمس
كانت مركب الملك خوفو، ثاني ملوك الأسرة الرابعة، مخصصة لنقله إلى العالم الآخر — رمزاً لرحلة الإله رع اليومية عبر السماء، ولهذا عُرفت باسم "مراكب الشمس".
في المعتقدات المصرية القديمة، كانت هذه السفن وسيلة ليرافق الفرعون الآلهة في الحياة الأبدية، فقد صُممت للإبحار في "العالم الجديد"، رمز الخلود. تحكي النقوش والزخارف التي تزينها قصص أسطورية تعزز قيمتها الروحية.
صُنعت المركب من خشب الأرز، وجُمعت دون استخدام المسامير، بل بطرق ربط معقدة ومتقنة. وتُعد أبعادها الهائلة — التي تصل أحياناً إلى 43 متراً طولاً — دليلاً على براعة المصريين القدماء في صناعة السفن.
اكتُشفت المركب الكبرى لخوفو عام 1954 على يد عالم الآثار والصحفي كمال الملاخ، في حفرة تقع جنوب الهرم الأكبر، وكانت مفككة إلى 1224 قطعة، بما في ذلك الحبال المستخدمة في ربطها. استغرقت عملية إعادة تركيبها نحو عشر سنوات. يبلغ طولها حوالي 43 متراً، وعرضها 6 أمتار، وارتفاعها 1.5 متر، وتُعد أكبر وأقدم أثر خشبي في تاريخ البشرية.
ظلت المركب معروضة في متحف ملحق بجانب الهرم الأكبر حتى عام 2021، وهو العام الذي بدأ فيه نقلها إلى المتحف المصري الكبير. يقول محمد جمال، منسق عام المتاحف ونقل الآثار:
"كان لابد من نقل السفينة لأن وجودها على الهضبة سبب العديد من المشاكل، فالمبنى الذي كان يحتضنها كان يحجب أشعة الشمس عن الجهة الجنوبية من الهرم مما أثر على أحجاره، كما كان يشوه المنظر العام للموقع. إضافة إلى ذلك، بدأ خشب السفينة يتدهور تدريجياً. وبعد محاولات نقل سابقة فاشلة، تم إعداد خطة جديدة عام 2019 ونُفذت عام 2021 بإشراف لجان هندسية وأثرية رفيعة المستوى بالتعاون مع مؤسسات علمية محلية ودولية".
عملية نقل دقيقة واستثنائية
يقول عيسى زيدان، المدير التنفيذي العام لترميم ونقل الآثار بالمتحف الكبير، إن فريقاً من المرممين في مركز ترميم المتحف والمجلس الأعلى للآثار قام بإجراء مسح ليزر شامل للسفينة لتوثيق أدق تفاصيلها. شملت العملية التغليف والتنظيف الميكانيكي والتعقيم الكامل وتقوية المناطق الهشة وحقن الراتنج في بعض الشقوق. كما تم توثيق جميع العلامات التي تركها المصريون القدماء على الخشب، مثل إشارات التركيب واتجاه القطع وترقيمها ووضع تقرير شامل عن حالتها قبل النقل.
نُقلت السفينة الشمسية بعد ذلك على مركبة صُممت خصيصاً لهذه المهمة واستُوردت من بلجيكا، ووضعت داخل صندوق أسود مزين برسومات تمثل سفينة خوفو. يقول اللواء عاطف مفتاح، المشرف العام على مشروع المتحف المصري الكبير والمنطقة المحيطة: "نظراً لوزنها الذي يبلغ نحو 120 طناً، كان علينا التأكد من أن الطريق لن ينهار، لذلك أُجريت عدة اختبارات باستخدام كتل إسمنتية بنفس الوزن".
أُغلقت الطرق بالكامل وتم تأمينها من قبل الشرطة، ورافق مسؤولو المجلس الأعلى للآثار والمتحف الكبير القافلة سيراً على الأقدام. بسرعة لا تتجاوز 20 كيلومتراً في الساعة، عبرت المركبة شوارع الجيزة حتى وصلت إلى المتحف، حيث كانت تنتظرها جرارات خاصة لتفريغ الصندوق ووضع السفينة في مكانها الدائم الذي تُعرض فيه اليوم. يضيف الحكيم: "بعد وضع السفينة في مكانها، تم استكمال بقية أعمال البناء".
يتميز المتحف بتصميم يسهل الوصول إليه لذوي الاحتياجات الخاصة، ويتيح للزائر اختيار زيارة سريعة أو متعمقة عبر سلالمه الحلزونية ومساراته المخصصة للمشاة. وقبل مغادرة المكان، يتوقف الكثيرون في متجر الهدايا التذكارية حيث تُباع نسخ صغيرة من السفن، تذكيراً بالملحمة الخالدة لرحلة الملك خوفو نحو الأبدية.
نقلًا عن الأهرم إبدو