فاروق حسني، وزير الثقافة المصري الأسبق والفنان التشكيلي المعروف، يستعرض في هذا الحوار قصة نشأة المتحف المصري الكبير الذي كان صاحب فكرته .. فمن الشعور بالإحباط أمام الفوضى في متحف التحرير إلى الطموح في إنشاء أكبر متحف في العالم مخصص لحضارة واحدة، يكشف لنا التفاصيل الكاملة لهذا المشروع الرائد.
موضوعات مقترحة
- مسيرتك الحافلة في مجال الفن والثقافة، التي امتدت على مدار 23 عامًا، كان لها أثر عميق في هذا المجال. لكن اليوم، نود التركيز على المتحف المصري الكبير، وهو مشروع بدأت فكرته بالصدفة. ما الذي دفعك إلى طرح هذا المشروع ؟
كنت أزور المتحف المصري في ميدان التحرير بشكل دوري، وبعد كل زيارة، كنت أغادره مصابا بصداع شديد، محاطا بشعور من العجز أمام الفوضى التي كانت تعم المكان. باعتباري فنانا، كان من المهم بالنسبة لي أن يتم عرض الأعمال الفنية بطريقة تليق بها، بحيث يتمكن الزوار من تأملها والاستمتاع بجمالها. فكرت في التدخل بشكل مباشر في المبنى نفسه، بدءا من أعمال الترميم، لكنني كنت أواجه تحديات كبيرة، خاصة أن التماثيل كانت ضخمة جدا ولا يمكن تحريكها. وكان هذا الوضع محبطا للغاية. ومن هذا الإحباط، ولدت فكرة بناء المتحف المصري الكبير، متحف ضخم وطموح، حيث يمكن عرض القطع الأثرية الكبرى بشكل لائق، في مكان يعكس جمالها وأهميتها. كانت رؤيتي أن يكون هناك فضاء يليق بالآثار المصرية القديمة، ويمنح المكان نفسه قيمة مضافة.
وحدث أنه في أوائل التسعينات، أثناء زيارة لي إلى باريس، توجهت إلى معهد العالم العربي، الذي كان يرأسه إدجار بيزاني. وكان بيننا صديق مشترك هو فرانكو ماريا ريتشي، أحد أبرز الناشرين ومصممي الجرافيك الإيطاليين. خلال لقائنا، قال لي ريتشي: "ماذا ستفعلون بالمخزن الذي لديكم؟"، وكان يقصد متحف التحرير. تضايقت وشعرت بالاهانة، فأجبته على الفور: أنت لا تعلم بعد، لكننا سنبني أكبر متحف في العالم. ولم يكن هناك شيء من ذلك. فقال لي إنه سيزور مصر بعد أسبوع، وإذا وجد فعلا أن المشروع جاد، فسوف يسعى لتأمين التمويل من جوليو أندريوتي، رئيس وزراء إيطاليا آنذاك.
فاروق حسني امام تمثال رمسيس
المتحف المصري الكبير
وكيف تحولت هذه الكذبة إلى حقيقة؟
أخبرت الرئيس الأسبق حسني مبارك أننا نرغب في بناء أكبر متحف في العالم. فسألني من أين سنجد التمويل فأجبته إن المشاريع الكبرى تجذب التمويل. كنت قد حددت قطعة أرض معينة، لكن الموقع كان يحتوي في حينها على مقر للقوات الجوية. فقرر الرئيس أن نذهب لرؤية الأرض.وفعلا ذهبنا معا، برفقة المشير حسين طنطاوي، وتجولنا في المنطقة حتى وصلنا إلى الموقع الحالي. وهناك أدركت أن هذا هو المكان المثالي, فهو مرتفع ويوفر منظرا رائعا على الأهرامات و هضبة الجيزة. فقلت له على الفور: هذا هو المكان.
ثم قمنا بإجراء دراسة جدوى استغرقت أربع سنوات، بتكلفة 4 ملايين دولار، ممولة من إيطاليا. كانت الدراسة عبارة عن 8 مجلدات شاملة، تناولت جميع الجوانب: البيانات الميكانيكية، طبيعة التربة، الرياح، الظروف المناخية، التوقعات لعدد الزوار، التكاليف… كان لدينا ملف كامل يتضمن خرائط تفصيلية للمشروع والخطوات المستقبلية.
بعد ذلك، أطلقنا مسابقة دولية للهندسة المعمارية، مع شروط دقيقة، وشكلنا لجنة تحكيم تضم ممثلين من الاتحاد الدولي للمعماريين، اليونسكو ووزارة الثقافة. كانت الحيادية هي أساس تلك العملية. تلقينا 1,557 عرضا من كبار المعماريين حول العالم. تم اختيار ثلاثة منهم ومن بينها اخترنا المشروع الذي يتماشى مع فكرتنا.
ما ميز المشروع الفائز هو دمجه الخلاق للأهرامات ضمن تصميم المتحف. فعندما يدخل الزائر إلى المتحف، يمكنه أن يرى الأهرامات بكل وضوح.
- لكن، لاحقا، لم تظل عملية البناء وفية تماما للتصميم المعماري الأصلي، حيث تم تعديل بعض العناصر، مثل واجهة المتحف. ما سبب هذا التعديل؟
صحيح، في البداية كان من المفترض أن تكون واجهة المتحف مصنوعة من الألباستر بحيث تتم إضاءة المبنى بالكامل بأشعة الشمس. لكن كمية الألباستر المتاحة محليا كانت غير كافية، وكانت تكلفة استيراده من تركيا أو اليونان باهظة جدا. لذلك تركت الموضوع مفتوحا على أمل تأمين التمويل لاحقا. كنت أفكر في استبدال الألباستر بالرخام الهاشمي مع إضافة نقوش زجاجية للحفاظ على الشكل البراق والروح الأصلية للفكرة. لكنني تركت المشروع بعد ذلك.
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
- تنفيذ مشروع بهذا الحجم يتطلب موارد ضخمة. كيف تم التعامل مع مسألة التمويل؟
في البداية، حصلنا على قرض من اليابان بقيمة 300 مليون دولار، قابلة للسداد على مدار 20 عاما. كما كانت هناك موارد مالية أخرى من داخل الوزارة، مثل صندوق الآثار وصندوق النوبة، بالإضافة إلى مصادر أخرى. هذه الموارد مكنتني من البدء في تنفيذ المشروع فورا.
وبالفعل بدأت الشركات في إعداد الموقع الذي يتكون من مستويين. كان علينا دراسة قدرة الأرض على التحمل. كما أن بعض القطع الأثرية كان يجب نقلها قبل بدء الأعمال، مثل تمثال رمسيس الثاني الذي بقي في الخارج حتى تم تجهيز الأرض داخل المبنى. كانت تلك ليلة خاصة جدا، ولم أتمكن من النوم خلالها.
ثم أسسنا مركزا للترميم، الذي أصبح اليوم من أكبر المراكز في العالم. يضم المركز 8 مختبرات متخصصة في ترميم الحجر والمواد العضوية والمعادن. كما قمنا بإنشاء مخازن نقلنا إليها العديد من القطع الأثرية الثمينة مثل القطع الذهبية والخشبية والجرانيت، لترميمها، بما في ذلك القطع التي كانت ستعرض على الدرج العظيم وتوابيت توت عنخ آمون الذهبية.
وأنجزنا المرحلة الأولى من المشروع، ثم بدأنا في المرحلة الثانية. كنت أتابع كل التفاصيل بعناية، وكان معي فريق من المهندسين والمتخصصين من وزارة الثقافة والآثار لضمان تنفيذ المشروع بأعلى المعايير. كانت بالفعل تجربة ملحمية. ومع مرور الأيام، شعرت بفخر كبير لرؤية هذا المشروع يتحقق، ولرؤية ماضي مصر العظيم يلتقي بمستقبلها. ولكن بعد ثورة 2011 يناير ، توقفت الأعمال فجأة. ثم غادرت الوزارة، ولم يعد أحد يهتم بالمتحف.
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
- كيف تمت إعادة إحياء المشروع؟
كنت أشعر بالحزن العميق لأن الأموال التي تم صرفها قد ضاعت هباء، وكانت القطع الأثرية التي تم نقلها مهددة بالبقاء بلا هدف. حينها، تمكنت من إيصال رسالة شخصية إلى السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي عن طريق أحد المسؤولين الكبار وقلت له إن المتحف الكبير هو مشروع فريد، تجاوز كل المقاييس. وبعد فترة قصيرة، زار الرئيس الموقع، حيث أثار المشروع حماسه وأكد التزامه باستكماله. بالطبع، شعرت بفرحة غامرة لرؤية هذا الحلم يتحقق، لأنني أعرف تماما قيمة هذا المتحف وأثره العميق ليس فقط على مصر، ولكن على العالم بأسره. أنا فخور بإرثنا، لأنه هو الذي شكّل الإنسانية وألهم أعظم الفنانين.
- هل كانت الفكرة من وراء هذا المشروع هي فقط توسيع المساحة لعرض آثار مصر القديمة، أم كان هناك رؤية أعمق أردت تجسيدها من خلال هذا المتحف؟
اليوم، المتاحف في جميع أنحاء العالم تطورت بشكل كبير. لم يعد المتحف مجرد مبنى أو قاعة عرض. في حالتنا، المبنى حديث، لكن القطع التي يحتويها تحمل ثقل التاريخ وجمالا تراثيا كبيرا. لذلك، كان من الضروري دمج القديم مع الحديث في سرد متحفي متكامل.
بمعنى آخر، يجب على الزائر أن يعيش تجربة عاطفية حقيقية. يجب أن يشعر وكأنه يدخل عالما جديدا. أمام متحف بهذا الحجم وهذه القيمة، يجب أن يكون التأثير قويا وعميقا.
يجب أن تهدف كل قطعة معروضة في المتحف إلى إحداث تأثير عاطفي ويتم عرض كل قطعة وفقا لمعايير جمالية دقيقة، بحيث تظهر في أبهى صورها. عندما يكتشفها الزائر، يجب أن يشعر بتأثير داخلي عميق. هذا المتحف ليس مجرد مبنى أو مجموعة من القطع الأثرية، إنه فلسفة حياة ويستند إلى علم دقيق، ويتطلب خبرة المتخصصين لصياغة سيناريو العرض المتحفي.
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
- في ظل تنوع المتاحف كما ذكرت، ما هي الميزة الفريدة أو الخصائص التي تميز المتحف المصري الكبير؟
موقعه ومحتواه. لقد جمعنا في هذا المتحف جميع عناصر النجاح: المشاعر, القيم، والتمازج بين الحداثة والأصالة. كانت الفلسفة واضحة: هذا المتحف يجب أن يجسد أسمى القيم التاريخية التي مرت بها مصر، وأن يقدمها من خلال عرض فني لم يره الزائر في أي مكان آخر، وفي موقعه الفريد عند أقدام الأهرامات.
إذا تم تنفيذ هذا المتحف كما تصورت، فسيكون أكبر مشروع ثقافي في القرن الواحد والعشرين. إنه يضم روائع فنية استثنائية، معظمها من المتحف المصري القديم. إنها كنوز حقيقية. أتذكر أنني دعوت أحد كبار النقاد الفنيين عندما كنت في الوزارة، وقد زار متحف التحرير وقال لي إن هذا هذا متحف للفن الحديث! وبالفعل، إذا نظرنا إلى الأشكال والخطوط في الفن الفرعوني، نجد أن الأسلوب التجريدي يظهر بوضوح في المسلات، والسريالية تظهر في تجسيد الآلهة، وأبو الهول، أو رؤوس الحيوانات على أجسام بشرية.
أظن أنه يجب دمج هذا النوع من القراءة في سيناريو العرض بالمتحف. القطعة المعروضة بشكل جيد تضاعف قيمتها. ولهذا السبب، يجب أن يخضع كل عنصر معروض إلى معايير جمالية دقيقة، ويجب تقديمه بطريقة تساعد الزائر على فك رموز جماله وعمق معانيه.
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
- وما المستقبل الذي تتخيله لمتحف التحرير؟
المتحف المصري الكبير قد جذب بالفعل كل الاهتمام الأثري. من يزور المتحف الجديد لن يكون بالضرورة مهتما بزيارة متحف التحرير. في رأيي، يجب أن يتم نقل بعض القطع الرئيسية من متحف التحرير إلى المتحف الكبير لاستكمال العروض المعروضة.
إن متحف التحرير مبنى استثنائيا، تم تصميمه من البداية ليكون متحفا, لذا لا يجب أبدا التخلي عنه. كان لدي فكرة، على الرغم من أنها لم تلقَ تأييدا من الأثريين، وهي تحويله إلى أكبر مركز لدراسات المصريات في العالم، خاصة أن مصر تستضيف أكثر من 200 بعثة تنقيب وترميم أثرية من مختلف الدول.
يمكن لهذا المركز أن يتضمن أيضا قاعة كبيرة للمعارض المؤقتة، تتجدد كل ستة أشهر أو مرة في السنة، تضم أعمالا من متاحف مصرية أخرى. هذا من شأنه أن يخلق رابطا جديدا بين المتحف المصري الكبير ومتحف التحرير، ويشجع زوار المتحف الكبير على مواصلة اكتشافاتهم في متحف التحرير.
نقلا عن الأهرام إبدو
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير
المتحف المصري الكبير