29-10-2025 | 13:38

ثلاثة أيام تفصلنا عن لقاء ينتصر فيه التاريخ على الزمن، حيث تعود أصوات الأجداد لتحكي للعالم قصص الخلود..

ثلاثة أيام تفصلنا عن لحظة ينهض فيها التاريخ من سباته، ويلتقي فيها الماضي بالحاضر.

ثلاثة أيام تفصلنا عن ميلاد يضيء صفحات التاريخ الحافل للأجداد العظماء، الذين نحتفل معهم في الأول من نوفمبر ببيتهم الجديد.. المتحف المصري الكبير.

نعد الثواني، ونكتم الأنفاس، ليوم تكتسي فيه مصر بأزهى حللها بأرضها ونيلها ورمالها وحجارتها، كل شيء يستعد لاستقبال أجدادنا العظماء.. بل كل العالم حاضر، ليشارك في هذا العرس الذي يليق بحضارة تجاوزت سبعة آلاف سنة.

الأهرامات الشامخة تصمت في وقارها، ولكن صمتها يصرح بالجمال والعظمة، وكأنها تهمس لكل زائر "ها هم يعودون ليحكوا لكم قصص الخلود".

الكون ينحاز إلى مصر، والسماء الصافية تنير كواكبها ونجومها.

جدران البيوت استعدت وتزينت بتيجان الوقار، والرياح تحمل مزيجا من العنبر وعبق الزمن، الفخم.

البوابة الضخمة للمتحف، بواجهتها المثلثة، تتلألأ تحت شمس الجيزة. انعكاسها الذهبي يرقص فوق الرمال وكأن الضوء نفسه يحتفل بولادة الصرح الضخم.. ممراتها الداخلية الواسعة تهتف بهيبة جدرانها، التي تبدو وكأنها تتحدث بلغات العالم أجمع، لكن الصوت واحد: 
"أنا مصر.. أنا من علمتكم معنى الخلود".

في البهو العظيم يقف تمثال رمسيس الثاني شامخا، رأسه مرفوع في عظمة، ووجهه يعكس القوة، وعيناه المعلقتان في الأفق تحملان قصص انتصاراته وأحلامه التي لا تموت كأن الحجر نفسه يتنفس، ويروي حكاية ملك أحب أرضه بعمق خالد، ويهمس "حكمت الأرض يومًا، وها أنا اليوم أحرس ذاكرة أبنائي".

كيف قاد معركة قادش ضد الحيثيين، وكيف نقش انتصاراته على جدران المعابد لتبقى للأجيال، وكيف أصبح رمز العظمة والقيادة، حاملا إرث المصريين القدماء في كل ضربة مطرقة ونحت على الحجر.

وفي جانب آخر نرى قاعة مراكب الشمس، حيث الأخشاب العتيقة تتوهج بضوء خافت ترى المراكب ممدودة في هدوء مهيب، كأنها تنتظر إشراقة الروح لتبحر من جديد، تحمل معها أسرار الشمس إلى الأبدية كأني أسمع همسات الأجداد، وهم يهمسون بحكايات الرحلة في النيل، وطقوس تحنيط الفراعنة، وعبورهم نحو العالم الآخر.

الضوء يتخلل اللوحات الخشبية، والظل يلعب على الجدران، وكأن المراكب تتحرك بصمت، تهمس "لم تكن رحلتي نحو الغروب، بل نحو الأبد".

ثم يتجه بصري إلى توت عنخ آمون، القناع الذهبي الذي يبتسم من وراء الزمن، المجوهرات تحكي قصة طفل ملك، تحدى الموت ليعيش في ذاكرة البشرية، أتخيل لحظة اكتشاف مقبرته على يد هوارد كارتر، وكيف كان الذهب يلمع بين الظلال، وكيف أضاء العالم بأسره بأحلام هذا الملك الصغير
العينان تتلألآن، والذهب يشع بهالة من الجمال الغامض، وكأن الصغير الملك يقول
"أنا لم أُبعث من المقبرة، بل من الحلم."

في جناح حتشبسوت، أرى الملكة تتألق بجلالها وجرأتها. ملامحها الناعمة والجادة معًا تحكي عن امرأة كسرت حدود المستحيل لتترك إرثًا خالدا..

أستحضر رحلة بناء معبد الدير البحري، كيف كانت تتحدى الرجال، وتضع خططا معمارية مذهلة، وكيف أصبح اسمها محفورًا في التاريخ كرمز للسلطة والحكمة والجمال..

وبالقرب منها يقف إخناتون، الملك الحالم بالشمس، تحاكي ملامحه الضوء الذهبي، وكأن روحه ما زالت تبحث عن النور، عن الحقيقة في كل شيء.

أتخيل معركته مع التقاليد الدينية، وثورته على آلهة مصر القديمة، وإيمانه بوحدانية الإله ويرمز إليه بالشمس، وكيف ترك رسائل في الجدران تصرخ بالأفكار الجديدة رغم غضب الأجيال.

اتصور جناح الطب عند الفراعنة، حيث بدأت البشرية رحلتها في فهم الجسد، وابتكار طرق العلاج، واختراع أدوات جراحة لم يعرفها العالم إلا بعد آلاف السنين.

أرى ملاعق وأواني معدنية دقيقة، ومشرطًا صغيرًا محفورًا بعناية، وإبرًا دقيقة من النحاس، وكل قطعة تتحدث عن عبقرية أطباء مصر القدماء.

الفراعنة لم يكونوا مجرد حكام أو معماريين، بل كانوا أول من ابتكر فن الجراحة وعلم التشريح، وتوثيق طرق العلاج.

أتصور الطبيب الملكي وهو يشرح للمتدربين كيف عالج كسور العظام، وكيف يوقف النزيف، وكيف يستخدم الأعشاب والزيوت كأدوية.

أنحني مرة أخري أمام عظمة الأجداد، حتحور سيدة الحب والجمال، تهمس بابتسامتها في كل تمثال وكل لوحة، لتذكرنا أن الفرح والحنان كانا جزءًا من حياة المصري القديم، أرى سشيت، معلمة المصريين الحساب والفلك، تهديهم أسرار النجوم وحركة الكواكب، وكل أداة علمية في جناح المتحف كأنها رسالة منها "افهموا الكون، لتفهموا أنفسكم."

ولا يغيب عن البال إيزيس، رمز الأمومة والسحر والحكمة، تحرس الأسرار وتعلم المصريين فنون الطب والشعر والحياة، وكل تمثال لها هنا يهمس بقوة الحماية والحب الأبدي..

حين اتخيلهم أشعر أن المتحف ليس مجرد بيت للقطع الأثرية، بل متحفٌ للمعرفة والحياة نفسها.

كل قطعة منحوتة، كل لوحة، هي دعوة للانغماس في عبقرية المصريين القدماء، الذين لم يبتكروا الفنون فحسب، بل علموا البشرية معنى الحب والجمال، وأشعلوا نور العلم بين الأجيال.

وعند الشرفة المطلة على الأهرامات، يكتمل المشهد؛ المتحف يمد يده إلى تلك القمم الحجرية الشامخة، فيصافحها بصمت مهيب، الأهرامات هناك تشهد ولادة حفيدها الجديد، والمتحف يرد التحية بمنحنى من الضوء إنه حوار الخلود بين الجد والحفيد، بين الحلم والواقع، بين ما كان وما سيبقى.

كل حجر يتكلم، كل ظل يتنفس، وكل قطعة تحكي سرًا عن العظماء الأوائل.

سيظل المتحف المصري الكبير أكبر هدية إلى العالم أجمع قلب الحضارة النابض، وشهادة حب مختومة من مصر للعالم تقول: "ها أنا من جديد أضيء التاريخ كما كنت دائمًا منذ الأزل".

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة