القرآن والعقل .. دستور التوازن بين المادة والروح

29-10-2025 | 13:45

إن الله سبحانه وتعالى لم يمنحنا نعمة القرآن الكريم عبثًا، ولم يطلب منا أن نقرأه في مآتمنا وجنائزنا، ولا لنضعه في سياراتنا ومكتباتنا للزينة أو للتبرك به.

وإنما وهبنا الله تعالى إياه لحكمة بالغة، هذه الحكمة هي التدبر والتأمل والبحث في معانيه الظاهرة والباطنة، من أجل العِظَة والاعتبار، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ﴾، فوالله لو ضاع عِقَال بَعير لوجدناه في القرآن الكريم.

إنه الكتاب الخاتم، الذي فيه نبأ من كان قبلنا وخبر من سيأتي بعدنا، مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ﴾. فالقرآن الكريم هو الدستور الذي يُنظم كل الدساتير، ففيه التشريعات وبه القوانين، وبين دفتي صفحاته منظومة الفضائل المُتمثلة في الأوامر، وفيه منظومة الرذائل المَنهي عنها.

﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾. ولعل هنا أمنيات من الله لنا لعلنا نتدبر آياته ونتذكرها فلا نَحيد عنها ولا نَميد.

نعم، إنه كتاب الله الخالد المحفوظ من التحريف أو العبث به، مهما حاول العابثون أن يعيثوا به ومهما حاول شَرَاذِم القوم أن يُدنسوه، ومهما تَنَطَّعَ عليه المُتَنَطِّعُون مُحاولين لَيَّ عُنُق آياته لتحقيق مآربهم الدنيوية الزائلة، إلا أن الله تعالى حافظه بقدرته وبقدرة الكاف والنون، ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾، ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾.

إن الإنسان بما هو كذلك يَجمع بين جانبين أحدهما مادي والآخر معنوي، والله سبحانه وتعالى أخبرنا عن ذلك في غير ذي موضع من الذكر الحكيم، فحدثنا الله تعالى عن العناصر الأربعة التي يتكون منها الكون جميعًا ومنها الإنسان.

في اعتدالية وتوازنية يَحار معها علماء الطبيعة؛ سواء كانوا علماء فيزياء أو أحياء أو كيمياء، هذه الرباعية هي: الماء، التراب، النار، الهواء. لا يمكن بحال من الأحوال أن يَطغى عنصر على الآخر وإلا سيعتل الجسد البشري، والجسم الكوني على الإطلاق. 

فإذا ما حدث اعتلال للجسم الكوني نستشعر ذلك من خلال حدوث الأعاصير والزلازل والبراكين. وإذا ما حدث هذا الاعتلال للجسد البشري تظهر الأوبئة والأمراض.

أما الجانب الآخر في الإنسان فهو الجانب الروحي، الجانب المُفارِق، الصَّفائي النوراني، الذي يتمثل في ممارسة العبادات والمُعاملات بين الناس، والعبادة الحقة لله تعالى دونما إفراط أو تفريط، مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما ضَرَبَ لنا أروع الأمثلة في اعتدالية ووسطية الإسلام.

عندما أتى له ثلاثة نَفَر، قال أحدهم: يا رسول الله، إني لا أتزوج النساء. وقال الآخر: وأنا أقوم الليل كله ولا أنام. وقال الثالث: وأنا أصوم ولا أُفطِر.

فرفض النبي صلى الله عليه وسلم هذه المغالاة وهذا التكلف في العبادة، مُعطيًا درسًا في الوسطية والاعتدال، لماذا؟ لأن سيكولوجية النفس البشرية لن تستطيع أن تحتمل مثل هذه الأمور بإطلاقها. فقال: "أنا أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوج النساء، وهذه سنتي فمن رغب عنها فليس مني".

وأيَّد هذا الحديث بحديث آخر عندما أتاه رجل قائلًا: يا رسول الله، إذا شهدت لله بالوحدانية وصليت الخمس وصمت رمضان وزكيت وأديت الحج إن استطعت، ولا أزيد سُنَّةً ولا نَفْلًا، هل أدخل الجنة؟ قال له: "نعم". فانصرف الرجل مُتهلِّلًا وجهُه، فقال النبي: "أفلح إن صدق".

فالإنسان بما هو إنسان يُحب الحياة، ويحب المنصب والشهرة والجاه والسلطان والولد، لكن المغالاة والإسراف هما المرفوضان. والشاهد على ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾، وقوله جل وعلا: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا﴾. وأيضًا يقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾.

لكن دونما مغالاة، دونما إفراط أو تفريط: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾.

فإذا ما احتكمنا إلى عقولنا، فأي عقل وأي حكمة في أن يقضي المرء عمره لاهثًا خلف شهواته؟ فما خلقنا الله لهذا، وإنما خلقنا لمهمة جليلة هي عبادته، ولن تتحقق العبادة إلا من خلال تحمل المسئولية، مسئولية نعمة الحياة التي وهبها الله تعالى لنا.

مصداقًا لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تزول قدما عبد حتى يُسأل عن ثلاث: شبابه فيما أبلاه، وعلمه ماذا عمل به، وماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه".

أما ما نراه الآن في واقعنا المعاصر من الانغماس في الشهوات بالكلية وما نشاهده من أمور يَنْدَى لها الجبين من السُّفور والخلاعة والتفنن في التعري من أجل أمر دنيوي عَرَضٍ زائلٍ سَيَفنى.

وهبنا الله تعالى العقل ليقف صمام أمان ضابطًا لمنظومة القيم التي بداخلنا في: افعل، ولا تفعل، قل الحق، ولا تُنكره، قل الصدق، ولا تكذب، كُن أمينًا، ولا تكُن خائنًا، كُن كريمًا، ولا تكُن بخيلًا، كُن شُجاعًا، ولا تكُن جبانًا. كن عفيفًا ولا تَنقَدْ خلف شهواتك انقيادًا أعمى يقودك إلى الهلاك. فالعقل ميزان الجسد، وإذا اختل هذا الميزان فحدث ولا حَرَج.
وهنا يأتي قول الله تعالى مُنَبِّهًا هؤلاء الذين خَامَرَت عقولهم وغيَّبوها بإرادتهم، مُحذِّرًا إياهم: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾. ذروهم يَلعبوا ويَلهوا ويأكلوا ويشربوا ويَعيثوا في الأرض فسادًا، ويُلههم طول الأمل.

أي أنهم يَظنون أنهم سيَخلدون في هذه الحياة الدنيا، فسوف يَعلَمون عندما يَدنو أجلهم وتَشْخَص أبصارهم ويَكشِف عنهم الله تعالى غطاءهم: ﴿فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾، ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾. فهل أنتم مُنتهون، يا مَن غَرَّتْكُم الدنيا وافتُتِنْتُم بها وغَرَّتْكُم زخارفها ومفاتنها ومَبَاهجها؟!

* أستاذ الفلسفة بآداب حلوان

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة