القاهرة "الخيار الأكثر أمانًا" للعراق الجديد

29-10-2025 | 13:47

أيام قليلة تفصلنا عن أهم انتخابات تشريعية في تاريخ العراق الحديث، ولم يزل السؤال حالًا وبقوة: تُرَى العراق إلى أين؟ وأي عراق سوف يخرج من مَعْمَعَة التطورات الدامية التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، وخاصةً بعد حرب إسرائيل ضد حلفاء إيران. وهل يتفجر الوضع الداخلي أم سوف يتم التوصل لتسوية اعتمادًا على موازين القوى، وما سوف تُفرزه الانتخابات المُقبلة. والسؤال المُهم: هل تتحرك الدول العربية، وخاصةً دول الخليج ومصر، لمساعدة العراق في العودة بقوة للحضن العربي، وبعيدًا عن التجاذبات الإقليمية والدولية؟ ويبدو أن كل الأطراف تتحرك بقوة، وتُريد أن تساهم في تشكيل العراق الجديد، وأن تكون قريبةً منه، وصديقةً أو حليفةً، وربما على الأقل شريكًا له في المستقبل.

لقد بدأت كل من واشنطن وطهران بترتيب أوراقها في المنطقة من جديد، ولعل الميليشيات الموالية لإيران في العراق هي الطرف الوحيد في ما يُعرف بـ"محور المقاومة" الذي لم يتعرض لقصف على مستوى واسع يُحطم من قدراته العسكرية لا من الجانب الأمريكي ولا الإسرائيلي خلال حرب 12 يومًا التي دارت رحاها بين إسرائيل وإيران. والسبب يعود بحسب مُراقبين إلى أن هذه القوى التي تُشكل جزءًا من الحشد الشعبي، تنضوي رسميًا تحت مظلة وزارة الدفاع العراقية، والعراق له اتفاقية أمنية مع الجانب الأمريكي. ويُقال إن واشنطن طلبت من الطرف الإسرائيلي عدم فتح جبهة العراق.

لكن عدم نَزع سلاح الميليشيات الموالية لإيران وتقليص نفوذها التجاري والاقتصادي والمالي يجعلها ورقةً في يد إيران للضغط على الجانب الأمريكي. ولذا بدأت واشنطن بالضغط أكثر على بغداد. وهو ما جعل الساحة العراقية محل تجاذبات ساخنة، وعرَّض حكومة رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني لضغوط كبيرة من أجل نَزع سلاح هذه الميليشيات القريبة من إيران.

ويقول الباحث في الشأن السياسي الدكتور عباس عبود في حوار مع "دويتش فيله عربية" إن "إيران تعتبر العراق جزءًا من أمنها القومي". ويُضيف إن الأدوات التي تمتلكها إيران أكثر من الآخرين في العراق، فهناك أحزاب ضمن العملية السياسية تربطها علاقات مع إيران وهناك مسائل مُرتبطة بإيران عقائديًا وهناك مصالح مُشتركة وقرار مُشترك، وإيران لها تأثير ومن خلال الجانب العقائدي على شريحة من العراقيين.

ويوضح عباس أن "المال السياسي يُتيح أن تستخدمه إيران لدعم جهات على حساب أخرى، وذلك من خلال الدعم اللوجستي لأحزاب صديقة لإيران سواء شيعية أو سُنيَّة. الأمر لا علاقة له بالمذهب، كذلك تستعمل الدعم الإعلامي".

ولكن في المقابل للولايات المتحدة حضور سياسي وأمني في العراق، منذ عام 2003، إذ تغيَّرَت موازين القوى العراقية. أما بالنسبة للانتخابات العراقية فيُنظَر إليها على أنه داعم لتطور إيجابي إصلاحي يطال القوى الأمنية، ولقوى تحرير الدولة أو المُعارضين للميليشيات، بحسب مصادر أمريكية. ورغم ذلك فإن انتقادات كثيرة وُجِّهَت لسياسة واشنطن تجاه بغداد، بعد انسحاب القوات الأمريكية عام 2011. لكن واشنطن بدأت أخيرًا تُمارس ضغطًا على بغداد وأحزابها بشأن مِلفِّ الميليشيات، الأمن، السيادة العراقية، وإدماج القوات المسلحة. وهذه القضية تنعكس أيضًا على الانتخابات، لأن بعض الأحزاب تعتبر نفسها مدعومةً من الخارج أو مُعارضةً للوجود الأجنبي.

ويرى كثير من الخبراء العراقيين أن الولايات المتحدة تملك تأثيرًا قويًا على المستويات الأمنية، والاقتصادية، والسياسية يمكن أن يُستخدم لدعم بعض التوجُّهات داخل الانتخابات العراقية أو لفرض شروط على الحكومة المقبلة.

ويرى الباحث الدكتور عباس عبود أن "الولايات المتحدة تعتبر العراق جزءًا من مصالحها الإستراتيجية في المنطقة ومصالح شركائها في الخليج والدول الأخرى، وبالخصوص الوضع في سوريا وإسرائيل. العراق جزء محوري من مصالح الولايات المتحدة الأميركية".

وأغلب الظن أن العراق اليوم بات يُمثل أولوية الرئيس دونالد ترامب، ولم تعد أولوية واشنطن تجاه بغداد فقط هي الأمن بل الاقتصاد.

لكن ماذا عن المستقبل؟ وهنا تتعدد الاجتهادات ما بين تفجُّر الوضع تمامًا، أو تفاهمات ما بين الأحزاب والقوى المُهيمنة على المشهد السياسي.

سياسة الحكومة القادمة سوف تعتمد على التغيرات في المنطقة، والمشروع القادم الذي سيُعرَض وربما يحظى بالقبول من غالبية دول المنطقة، وهل هو مشروع يتبنى المواجهة من طرف واشنطن والمقاومة من قبل إيران، أم مشروع يتبنى التهدئة، والتعايش الصعب، وتسويات مؤلمة لإدارة الأزمات، واستراحة طويلة استعدادًا لمرحلة جديدة من الصراع في قادم الأيام. أم أن ثمة عوامل تدعو للتفاهم حول مستقبل العراق حفاظًا على مصالح حيوية لجميع الأطراف.

ويشرح د. عباس المشهد العراقي بقوله أن "العراق اليوم هو العراق الثالث، العراق الأول هو العراق الأمريكي من 2003 وحتى انسحاب القوات الأمريكية 2011. والعراق الثاني هو عراق النفوذ الإيراني لمَلْء الفراغ، بعد انسحاب الولايات المتحدة حتى عام 2019، بعد استقالة حكومة عادل عبد المهدي. ويقول الباحث العراقي المُخضرَم أن العراق الثالث هو بعد حكومة الكاظمي، وحكومة محمد شياع السوداني، حاول أن يعود للحاضنة العربية بطريقة غير مدروسة". ويقول عباس عبود أن "الكاظمي هواه إماراتي بينما محمد شياع السوداني هواه قَطَرِي، ربما الحكومة القادمة سيكون هواها سعوديًا أو مصريًا، ولكنهم سوف يتجهون أكثر للحاضنة العربية، إرضاءً لواشنطن وبحثًا عن دور في المنطقة".

ويوضح أن أكثر تأثير لهذه التحولات في القوة هي في الخليج، بالقول أنه "بعد الصراع السعودي القطري، والتنافس السعودي الإماراتي، التفاعلات كثيرة في المنطقة خصوصًا بعد حرب غزة، والعراق لا يمكن أن يكون في مَعزِلٍ عنها". ويُشير إلى حضور العراق في مؤتمر شرم الشيخ الذي يُمثل دلالةً على "أنه سوف يَنغمِس في التحالفات المُقبلة وأدخَلَ نفسه في مَمَرٍّ يجب أن يُكمله حتى النهاية". مُوضحًا بالقول "العراق لا يستطيع العودة للمحور الإيراني، ولا يمكنه الدخول في محور التطبيع، الإبراهيمي. العراق سيُحاول أن يُقدِّم قَدَمًا، ويُؤخِّر أخرى، وسيحاول المُناوَرة. وهذا يعتمد على من سيكون على رأس الدولة. هذا يعتمد على استراتيجية الدولة للمرحلة المقبلة، لكن أستطيع القول إن العراق سيحتفظ بسياسته التي انتهجها بعد 2019، وهي سياسة العراق الباحث عن بُوصلة وعن دور في المنطقة".

ويبقى أن مصر وسياستها المُتوازنة، وبقدرتها الهائلة على "التوازن الإستراتيجي"، وعلاقتها المُنفتحة على الجميع وخاصةً تجاه الخليج وإيران، وتجاه واشنطن وموسكو وبكين، يمكن أن تُوفِّر للعراق الجديد الحاضنة المثالية. وعلى الأرجح فإن القاهرة غير المسكونة بالهواجس الطائفية، وعلاقات جيدة وثقة من جانب طهران يمكنها أن تُبدد مخاوف الطرفين، كما أن انفتاح القاهرة السُنِّيَّة على إيران من شأنه استقرار الوضع في بغداد. ولعل نموذج إدارة أزمة غزة والقضية الفلسطينية بالتعاون مع تركيا وقطر، والحوار مع طهران واستيعاب حماس والتنسيق مع السعودية وفرنسا، وفرض الشرعية الفلسطينية. لعل هذه الدبلوماسية المصرية الدؤوبة، وثِقَل الدولة المصرية ما يجعل القاهرة "الخيار الأكثر أمانًا" للعراق الجديد.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: