لستُ ناقدًا أدبيًّا، ولا أضع نفسي في الحياة كلها في موضع «الحَكَم»، الذي يُصدر الأحكام ويُقيِّم. لكنني أيضًا - في المقابل- كاتبٌ، لي آراء ومنابر، أستطيع من خلالها أن أقول أو أقدم شيئًا. فهل أنا مُخلِصٌ لدوري كما يجب أم أساير الأجواء وأُجامل؟ السؤال شغلني، عندما وجدتني طرفًا في الحكاية التالية.
في معرض القاهرة الدولي للكتاب قبل عامين، التقيتُ للمرة الأولى كاتبةً، صدر لها عملٌ أدبيٌّ أول، كانت بصحبة زوجها الذي أعرفه، فهو صديقٌ لصديقٍ لي، وسبق أن قابلته.
أهدتني الكاتبة منار الأزهري روايتها، وفعلت ذلك مع كُتَّابٍ آخرين. لاحظتُ أنها تطلب من الجميع بإصرارٍ وصدق أن يهدوها في المقابل نصائحهم حول كتابتها وملاحظاتهم عليها. بدت شغوفةً بما تفعله. كما بدا مشروعها شخصيًّا، فرديًّا، طموحًا، ويشهد على هذا مشاركة زوجها خليل جمعة بإخلاص في الدعوة للاطلاع على رواية زوجته تشجيعًا لها وتوجيهًا لكتابتها بالإرشاد والنصح، رغم أن عمله هو بعيدٌ عن مجال الكتابة.
أعجبني المشهد كله، بما فيه علاقة الزوجين، كما لفت نظري جودة طباعة الرواية وجمال لوحة الغلاف. لكنني برغم هذا وضعتُ العمل في جداول القراءة المعتادة. وما أدراك ما جداول قراءة الكُتَّاب!
أغلبنا يضع في أعلى قائمة أولويات القراءة أعمال كبار الكُتَّاب، الراحلين والحاليين، المشهورين والمتحققين، أصحاب الجوائز والشهرة والمجد، كي ننهل منهم بالطبع، أو نكتب عنهم، فندرك عندئذٍ نصيبًا من نجاحهم، "وينالنا من الحب جانب"؛ حب الناس أعمالهم. لكن ماذا عن الآخرين؟
أين دورنا تجاه الكُتَّاب الجدد الموهوبين؟ وكيف نُفرِّق بين الموهوب وعديم الموهبة إن تركنا أعمالهم مركونةً على الرف ولم نفتحها من الأصل؟ ألا نكون بذلك مُدَّعين فاسدين؟ ألا نكون مجرد مُستغلين لنجاح الناجحين؟ لا أتهم أحدًا بشيء، لكن هذا مضمون حوار داخلي موجه إلى الذات؛ "مونولوج"، قررت بعده أن أُمزق "الكاتالوج" مُحدِّد الأولويات، وأن أقرأ للكاتبة الجديدة، لعل وعسى. وعندئذ كانت المفاجأة!
«حكاياتنا»، هو عنوان رواية منار الأزهري، التي تكشف عن عمل أول جاد ومُبشِّر، لكاتبة لديها ما تحكيه، وتعرف كيف تحكيه، بأسلوب جاذب مُشوِّق، يدفع القارئ إلى متابعة العمل حتى النهاية، ليرى كيف تنتظم خيوط الحكايات التي تبدو للوهلة الأولى مُتباعدة، لكنها تُشكل في النهاية بناءً لحكاية واحدة، مُتقنة الصنع، مُحكمة الحَبْكَة، زاخرةً بانعطافات سردية مُفاجئة؛ "تويستات"، تم توظيفها جيدًا لتُضفي جمالًا وجذبًا على البناء الروائي ككل.
"انتهت مراسم العزاء وأيامه الثلاثة، تلقيتُ عزاء والدتي وأنا أكتم حزني الشديد على فراقها، حضر جميع معارفي وأصدقائي لتعزيتي، وأيضًا حضر محمود ووالدته لمواساتي، وإن كنت لا أود مقابلته أبدًا".
هكذا تأتي افتتاحية الرواية، لتدخل الكاتبة على لسان بطلتها بسمة من أول سطر في خضم الأحداث، منطلقةً من الحدث الرئيسي الكبير وهو وفاة الأم، لتبدأ البطلة عندئذ حياتها بمفردها، ونتعرف شيئًا فشيئًا على ملامح حياتها السابقة، وقصة زواجها الفاشل من حبيبها الوحيد محمود ولماذا فشلت، بالتوازي مع خطتها المستقبلية لكسر وحدتها وبناء حياة جديدة.
تقرر بسمة افتتاح مكان تُسميه «حكاياتنا»، تُعلن عنه على مواقع التواصل الاجتماعي لمن يريد الحكي عن نفسه وتجاربه بحثًا عمن يستمع إليه دون وصاية أو أحكام سلبية، فالإنسان قد يخشى البوح لمن يعرفهم فيُفضِّل الحديث مع شخص مجهول أو صديق جديد ليسترجع أخطاء الماضي معه، فيبدو كمن يختلي بنفسه ويُحاورها في حوار ذاتي.
تصف الكاتبة المكان الذي جهزته البطلة أعلى سطح بناية تطل على قصر البارون في مصر الجديدة، فتنساب الراحة ويتسلل السلام إلى نفس القارئ حتى يتخيل أنه بداخله أو يتمنى أن يصبح المكان حقيقةً بالفعل وليس خيالًا روائيًّا، فكلنا لدينا ما يحكيه أو يعترف به، كلنا يريد أن يتكلم.
تبدو حكايات الزوار مُتباعدةً، مُنفصلةً، تعرضها الكاتبة على ألسنة أصحابها التي أجادت رسم شخصياتهم، في بناء روائي متعدد الأصوات. وبالتوازي، نتعرف على حكاية البطلة نفسها التي تتقاطع مع بعض التفاصيل التي تستمع إليها، فيتصاعد السرد الروائي بالتدريج، ليبني علاقات جديدة بين الشخصيات تقودها إلى مصائرها.
لا يتوقع القارئ نهاية الرواية بالشكل الذي انتهت إليه، لكنها تُضفي على نفسه البهجة وتمنح روحه الأمل، وذلك بعد رحلة يتعرف خلالها على نماذج بشرية طبيعية، تُحب وتكره، تغضب وتندم، تُخطئ وتُصحح؛ شخصيات واقعية من لحم ودم، قد يجد القارئ فيها نفسه، فيتصالح مع أخطائه ويعرف طريقه في الحياة، كما عرفت البطلة طريقها من خلال حكاياتهم، التي هي في الحقيقة «حكاياتنا» جميعًا.
ومن أجواء الرواية: "يدللني كابنته، يحترمني كأمه، يحبني كعشيقته"، و**"أخذ نفَسًا عميقًا وزاغت عيناه، ثم قال: والدتُكِ ستتزوج.. رددتُ عليه سريعًا بسذاجة طفلة: هي متزوجة من أبي، أمي قالت لي إن الطلاق يعني أن الأب والأم لا يعيشان في البيت نفسه فقط"، و"أصعب ما في الحب هو حالة التيه والتخبط مع مَن تحب، لكن حدسي يخبرني أن القادم أفضل بكثير"**.
وللموضوعية، نقول إن رواية «حكاياتنا» تحققت فيها سمات العمل الأول للكاتب بإيجابياته وسلبياته، ففيها شغف الحكي ووهج الأمل وبراءة الحلم لتجميل حياة البشر، وفيها أيضًا جُمَلٌ وفقرات كان ينبغي حذفها تمامًا، حتى تتسلل المعاني للقارئ عبر الحكاية وحدها، ولا يتحول العمل إلى ما يشبه كتب التنمية البشرية.
الأصل في الأدب هو الحكاية؛ المتعة والتشويق والجذب، وتبقى مهارة الكاتب في إخفاء المعنى وراء حكايته، وفقًا لنظرية "جبل الثلج" في الكتابة عند همنجواي، وواقعية نجيب محفوظ وصنع الله إبراهيم وكثيرين. والميزة الأبرز في رواية «حكاياتنا» هي، كما يبدو من اسمها، القدرة على الحكي، مما ينبغي تشجيعه والاحتفاء به، في ظل سيطرة الأشكال الحداثية على الأدب حاليًّا، بما فيها من عجائب وغرائب وأمور مُلغَزة، لا تفسير لها غالبًا إلا في ذهن كاتبٍ لا يملك شيئًا داخله؛ فيلجأ إلى الإلغاز للإيحاء كذبًا بالعمق والحكمة!
أخيرًا.. إذا كانت رواية «حكاياتنا» للكاتبة منار الأزهري تنطوي على دعوة للبوح، بهدف فهم النفس والتصالح معها، فإنني بالعودة إلى «حكايتي»، و**"مونولوجي"** الداخلي عن القراءات المؤجلة، أرى أن القارئ/ الكاتب يبدو كأنما استجاب - في السطور السابقة- للدعوة؛ فباح وأدَّى دوره قدر طاقته، كي يتصالح مع نفسه.