مثل مياه الشلالات تنحدر مسرعة من الجبال نحو الوادي، هكذا نشاهد التحولات التي تحدث في فلسطين والعالم بعد طوفان الأقصى، حيث تفاعلاتها لم تتوقف، بل تتزايد بعد أن تحول العالم إلى طرفين، أو فسطاطين، الأول يقف مع الحق الفلسطيني، والثاني يساند المحتلين الصهاينة، وكأن حدث السابع من أكتوبر 2023، هو الفيصل بين الحق وبين الباطل.
نعم، لقد هدأت حرب الإبادة ضد الفلسطينيين مؤقتًا، إلا أن مشاعر التعاطف مع الفلسطينيين تزداد انتشارًا، مقابل الكراهية التي تزداد اشتعالًا ضد الصهاينة، حيث "فلسطين" تختزل اهتمامات وقضايا العالم، لتصبح هي الأولوية للعالم الحقيقي والعالم الافتراضي معًا، بعد أن اجتاحت أحداثها مواقع التواصل الاجتماعي.
التحولات على الطريق تتكاثر وتتفاعل: ثقافة ومعرفة ومعلومات ومواقف، مثل التصريحات الصادمة لأكاديمي يهودي يُدعى "مارك برافرمان" الذي قال أمام ملتقى يهودي: "سيأتي يوم نركع فيه ندمًا على ما نفعله بالفلسطينيين ندمًا على عمليات التطهير العرقي للشعب الفلسطيني، أنا يهودي، ولدت بالولايات المتحدة عام 1948، ثم ذهبت إلى فلسطين، واكتشفت أننا نطرد شعبًا بأكمله، وأننا منخرطون في عمليات التطهير العرقي ضد السكان الأصليين، ثقافة جميلة ورائعة.
فالقصة اليوم ليست قصة معاناتنا بالمحرقة في الماضي، وأن ذلك يعطينا الحق في أن نفعل ما نشاء، هذه ليست قصتنا؛ لأن قصتنا هي ما نفعله بشعب آخر، قصتنا هي "النكبة" كما يسميها الفلسطينيون، أي إنها المحرقة الخاصة بهم، وإذا لم ندرك أن هذه هي قصتنا الحقيقية، فنحن هالكون. وأقول لك أيها الحاخام، وأقول أمام الحضور: سيأتي اليوم الذي سنركع فيه ندمًا ونضرب صدورنا خجلًا مما فعلناه، ولعل ذلك اليوم يأتي سريعًا، وفي زماننا كما تقول الصلاة اليهودية".
المشهد يختزله ويؤكده الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب: "نشأتُ في عالم تدور السياسة فيه حول إسرائيل، كلمة واحدة سيئة عن إسرائيل تنهيك سياسيًا، أما اليوم، فكلمة واحدة جيدة عن إسرائيل تنهيك سياسيًا".
المشهد تختزله أيضًا، وتؤكده ولاية نيويورك، حيث سيل من الجماهير المؤيدة للمرشح لعمدة نيويورك "زهران معمداني"، والذي هدد بأنه في حال نجاحه، سيصدر أمرًا باعتقال "بنيامين نتنياهو" تطبيقًا لقرار المحكمة الجنائية الدولية، في حال وصوله إلى الولاية.
المشهد أيضًا يختزله، ويؤكده أكثر من 300 كاتب وباحث وشخصية عامة، بينهم نحو 150 من كُتاب مقالات الرأي السابقين في صحيفة "نيويورك تايمز" الأمريكية، حيث أعلنوا مقاطعتهم لقسم الرأي في الصحيفة، عبر بيان لهم، احتجاجًا على ما وصفوه بـ"التحيز المعادي للفلسطينيين" في تغطية الصحيفة للحرب على غزة. وأوضح البيان أن نيويورك تايمز تعتمد على مساهمات الكُتاب المستقلين في قسم الرأي لتلميع صورتها، معتبرين أن هذا القسم "لن يكون ذا قيمة من دونهم".
المشهد كذلك تختزله، بل وتؤكده صحيفة "يديعوت أحرونوت" الصهيونية، فقد لخصت المشهد بعبارة بليغة: "كل من تحمل المسئولية عن فشل 7 أكتوبر غادر المشهد.. إلا نتنياهو نفسه".
أحد المعلقين في القناة 12 الصهيونية يقول: "نتنياهو بات محاصرًا بين واشنطن وتل أبيب: الأولى تضغط لإنهاء الحرب، والثانية تضغط لمواصلة القتال حتى آخر طلقة".
والآن يقف العالم وجهًا لوجه مع المخلوق الوهمي الذي هو كيان صهيوني اسمه "إسرائيل"، حيث محاربته بنشر المعلومات الحقيقية عن فلسطين، يعيد للإنسانية مكانتها، ولشعب فلسطين حقوقه ووطنه وكرامته، كما فعل المؤرخ الأسكتلندي "ويليام دالريمبل"، والذي يحطم روايات الاحتلال المزيفة حول تاريخ فلسطين وهوية شعبها، ويثبت أن اسم فلسطين يعود إلى آلاف السنين، وقد ورد في نقوش فرعونية وفي مصادر تاريخية قديمة، بما في ذلك كتابات المؤرخ الإغريقي هيرودوتس، ويؤكد أن لفلسطين شعبًا بتاريخ وهوية عريقة. وهكذا فعل فيلم "فلسطين 1920"، وهو أول فيلم وثائقي يكشف مقومات دولة فلسطين، وكيف كانت قبل أكثر من 100 عام.
"من المنتصف الثاني للقرن التاسع عشر في فلسطين، هكذا يسرد الفيلم، كانت هناك مدارس حديثة جزء منها عثماني، ومنها مدارس أجنبية. التقديرات تقول إن نسبة من يُجيد القراءة والكتابة من الفلسطينيين تُقدَّر بحوالي 2%، وهؤلاء بالأساس رجال الدين وبعض المثقفين عام 1948. أما عدد المواطنين بين الشباب ممن يُجيدون القراءة والكتابة نحو 50%، وهي نسبة مذهلة على مستوى العالم، وليست على مستوى فلسطين والعالم العربي".
يستطرد الفيلم: "في عام 1920 استعادت الحياة الاقتصادية حياتها في القدس ويافا وحيفا، بعد سنوات العِجاف التي عاصرت الحرب العالمية الأولى، وكانت الدولة العثمانية إحدى الدول الكبيرة التي هُزمت، حيث تشير الوثائق وسجلات لدى محكمة القدس الشرعية، إلى أن القدس كانت تُصدِّر الصابون إلى مصر وإيطاليا واليونان عبر ميناء غزة، والحبوب إلى مصر ورودس وبرودنك عبر ميناء يافا، والقطن إلى فرنسا وميناء مدينة إزمير التركية، إضافة إلى تصدير التحف والتماثيل والهدايا الدينية إلى إسطنبول وإيطاليا والبرتغال وإسبانيا، كما شهدت الموانئ الفلسطينية حركة استيراد نشطة، مثل استيراد الأرز والأقمشة من مصر، والمنسوجات من إسطنبول، والزجاجيات من الصين، والشالات من الهند، والرصاص من دول أوروبا وخاصة فرنسا وهولندا. الأسبوع المقبل نستكمل استقراء التاريخ بإذن الله. "أليس الصبح بقريب"".
[email protected]