إلى أين يتجه العالم بعد قمة شي - ترامب؟!

28-10-2025 | 14:22

هناك لحظات في التاريخ لا تُقاس بما يُقال فيها، بل بما يُقال عنها. وقمة الرئيسين "شي - ترامب" المرتقبة في كوريا الجنوبية على هامش قمة إيبك، والتي تدور حولها الأنظار هذه الأيام، واحدة من تلك اللحظات التي تتجاوز حدود اللقاء الثنائي لتلامس أعصاب النظام الدولي كله. فالعالم يعيش الآن لحظة "تبدل الموازين"، حيث تلتقي الإمبراطوريتان القديمة والجديدة، لا لتتفاهمَ، بل لتقيس كل واحدة منهما وزنها في ميزان القوة العالمي.

في كوريا الجنوبية، يُفترض أن يجلس الرئيسان وجهًا لوجه — أو هكذا يُقال — لكن المسافة بينهما، رغم قرب المقاعد، تبدو أبعد من أي وقت مضى. فالموعد غير محسوم، والمضمون غير مضمون، والعلاقة بين واشنطن وبكين لم تعد علاقة شريكين يتنازعان التفاصيل، بل خصمين يتنازعان المستقبل ذاته.

قبل سنوات، كان يُظن أن الصين ما زالت تتعلم "قواعد السوق" التي وضعتها الولايات المتحدة. لكن اليوم، كما تقول الإيكونومست البريطانية، أصبحت بكين هي التي تعيد كتابة هذه القواعد، بمداد من القوة الاقتصادية والثقة بالنفس. والذين كانوا يرونها في موقع الدفاع، يكتشفون الآن أنها من تمسك بزمام الهجوم.

منذ أشهر، تبادل الطرفان الضربات. واشنطن ضيقت الخناق على التكنولوجيا الصينية، وبكين ردت بالقيود والتهديدات المدروسة. وزير الخزانة الأمريكي قال بثقة إن "الصين ضعيفة". لكن الأسواق لا تُصغي إلى الخطب، بل إلى الأرقام. وفي لغة الأرقام، ارتفعت بورصة شنغهاي هذا العام بنسبة 34% بالدولار، أي ضعف ما حققته بورصة "وول ستريت".

هذه ليست مجرد صدفة في الأسواق، بل علامة على ميزان نفسي جديد. فالصين لم تعد ترتبك من الضغط الأمريكي، بل ترد عليه بخطوات محسوبة، تُظهر مهارة في إدارة الأزمات تشبه الشطرنج أكثر مما تشبه الملاكمة.

في أبريل 2025، أعلن ترامب "رسومًا تحرير" جديدة على الصين، فاهتزت "وول ستريت"، ثم تراجع. وبعد أسابيع، حدت بكين من تصدير المعادن النادرة، وهي شريان صناعات التكنولوجيا الغربية، فهدد ترامب برفع الرسوم إلى 100%، ثم تراجع مرة أخرى. دلالة ذلك كانت واضحة: القوة الاقتصادية أصبحت تُقاس بعدد سلاسل التوريد التي تتحكم فيها، والعالم اليوم بات مرتبطًا بالصين أكثر مما يريد أن يعترف.

وبالتزامن مع ذلك، انتقلت بكين من الدفاع إلى بناء نظام جديد. ففي الوقت الذي أقامت فيه واشنطن "إمبراطورية الرسوم الجمركية"، راحت الصين تشيد إمبراطوريتها الخاصة من العقود، والتراخيص، والمشروعات العابرة للقارات. والنتيجة أن صادراتها الإجمالية زادت بأكثر من 8% رغم تراجع صادراتها إلى الولايات المتحدة بنسبة 27%. بكين أعادت رسم خريطة التجارة العالمية على نحو يجعلها مركزًا لا غنى عنه. أكثر من سبعين دولة تعتبر الصين اليوم شريكها التجاري الأول، رقم يكفي لشرح لماذا لم تعد الحرب التجارية مجرد نزاع ثنائي، بل معركة على قيادة الاقتصاد العالمي.

ومن جهة أخرى، ولأن كل صراع خارجي له انعكاسات داخلية، فقد خرج الرئيس الصيني من المعركة أقوى مما دخلها. والحزب الشيوعي، الذي كان يواجه انتقادات بسبب تباطؤ النمو وأزمة العقارات، وجد في المواجهة مع واشنطن فرصة لتجديد شرعيته. فالمواطن الصيني، الذي عاش عقودًا من الانفتاح الحذر، بات ينظر إلى ضغوط ترامب كدليل على صواب الطريق الذي رسمه شي منذ اثني عشر عامًا: طريق "الاعتماد على الذات" وبناء قوة تكنولوجية وطنية. وفي أروقة الحزب، تُكتب الآن خطة خمسية جديدة تُعلي من شأن "الأمن الصناعي" و**"السيادة الرقمية"**، وهي مفردات كانت تُستخدم قديمًا في وصف الإمبراطوريات لا الدول النامية.
وعلى الجانب الآخر، تبدو واشنطن محاصرة بقيودها. فهي لا تستطيع أن تقطع شريان الدولار عن الصين دون أن تخنق نفسها، ولا تستطيع أن تعزلها عن الأسواق دون أن تهز استقرار النظام المالي العالمي. ومن هنا تأتي خطورة اللحظة. فكل تصعيد أمريكي يقابله اضطراب في الداخل، وكل تراجع يُفسر ضعفًا.

ترامب يعرف ذلك، وشي يعرف أن ترامب يعرفه. ولهذا قد يلتقيان فقط لإظهار "حسن النية"، لا أكثر.

إذا انعقدت القمة بين الرئيسين الصيني والأمريكي في نهاية شهر أكتوبر الجاري، فربما تخرج بورقة تهدئة مؤقتة: تجميد واشنطن بعض الرسوم الجمركية على بكين، أو تأجيل القيود الصينية على تصدير المعادن النادرة، وربما إحياء صفقة فول الصويا أو بيع "تيك توك" لمستثمرين أمريكيين. لكن لا أحد يتوهم أن هذا يعني سلامًا تجاريًا. اللقاء لن يكون مصالحة بين قوتين، بل هدنة بين جبهتين تعرفان أن الحرب الحقيقية لم تبدأ بعد.

إن القمة، إن عُقدت، لن تغير اتجاه الريح، لكنها قد تخبرنا إلى أين تهب. فالعالم يقف اليوم عند بداية مرحلة جديدة، تتراجع فيها العولمة لصالح الجغرافيا السياسية، ويعود فيها الاقتصاد إلى موقع السلاح في يد الدول.

والسؤال الذي يبقى: هل يتعلم العالم من التجربة فيعيد بناء التوازن، أم يواصل السير في طريق لا يعرف له نهاية إلا الصدام؟ الجواب ليس عند "شي" وحده، ولا عند "ترامب" وحده، بل عند عالم يحاول أن يجد لنفسه معنى جديدًا في زمن تتبدل فيه الموازين، وتُكتب فيه قواعد اللعبة من جديد.

رئيس وحدة العلاقات الدولية – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة