لم يكن الشيخ محمد سيد طنطاوي مجرد عالم أزهري تدرج في المناصب حتى اعتلى مشيخة الأزهر، بل كان واحدًا من أبرز دعاة التجديد في الفكر الإسلامي المعاصر، ومن الأصوات التي حاولت أن تُبقي الدين حيًّا في وجدان الناس، منفتحًا على قضايا العصر دون أن يفقد أصالته أو ثوابته.
موضوعات مقترحة
وُلد الإمام الأكبر في قرية سليم الشرقية بمحافظة سوهاج فى 28 أكتوبر 1928م، في بيت ريفي بسيط، حفظ القرآن صغيرًا، وتربى على قيم الإخلاص والعلم والجدية. منذ بداياته في الأزهر، ظهرت عليه ملامح الباحث عن الحقيقة والمجتهد في الفهم لا في الحفظ فقط. درس في كلية أصول الدين، ثم نال الدكتوراه في التفسير والحديث برسالة عنوانها "بنو إسرائيل في القرآن والسنة"، كشفت مبكرًا عن منهج عقلي تحليلي في قراءة النصوص الشرعية، بعيدًا عن التكرار والاجترار.
عمل إمامًا وخطيبًا، ثم مدرسًا، فعميدًا لكلية أصول الدين بأسيوط، ثم رئيسًا لقسم التفسير بالجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وهناك اكتسب سمعة علمية واسعة بفضل أسلوبه المتزن وقدرته على التوفيق بين النص والمقاصد، وبين روح الشريعة ومتطلبات الواقع.
لكن الانعطافة الأبرز في مسيرته جاءت عام 1986م حين تولى منصب مفتي الديار المصرية، فبدأ اسمه يبرز كصوت إصلاحي داخل المؤسسة الدينية، لم يتردد في مناقشة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الحساسة، مثل حكم فوائد البنوك، والعلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وقضايا المرأة، داعيًا إلى فهم النص في ضوء مقاصده ومصلحة الناس.
ورغم الجدل الذي أثارته بعض فتاواه، فإن الشيخ طنطاوي كان يرى أن الجمود خطر على الدين نفسه، وأن الاجتهاد المنضبط هو السبيل لحماية الشريعة من التحجر والتسييس، لذلك لم يكن غريبًا أن يكتب واحدًا من أكثر كتبه تأثيرًا، وهو “معاملات البنوك وأحكامها الشرعية”، الذي حاول من خلاله أن يضع تصورًا فقهيًا متوازنًا للتعاملات المالية المعاصرة، بعيدًا عن التشدد أو الانغلاق.
وفي عام 1996م، اعتلى الشيخ مشيخة الأزهر الشريف، فحمل على عاتقه مهمة صعبة: أن يُعيد للأزهر دوره التاريخي كمنارة للعقل والاعتدال.
اتسمت فترته التي امتدت أربعة عشر عامًا بالحيوية الفكرية والجدل في آنٍ واحد، فقد فتح الأبواب للحوار بين الأديان، ودعا إلى نبذ التطرف والغلو، مؤكدًا أن الإسلام دين رحمة وعدل لا كراهية ولا إقصاء.
كان طنطاوي يؤمن بأن رسالة الأزهر لا تقتصر على تخريج العلماء، بل تمتد إلى بناء الوعي الديني الصحيح، فحرص على تطوير مناهج التعليم الأزهري، ودعم تدريس كتابه "الفقه الميسر" في المراحل الإعدادية ليكون نموذجًا للفقه القريب من حياة الناس، السهل في لغته، العميق في مضمونه.
ورغم بعض الانتقادات التي وُجهت إليه بسبب آرائه الجريئة في قضايا الحجاب أو التعامل مع الآخر، ظل ثابتًا على مبدئه: أن الدين لا يخاف الحوار، وأن “الاجتهاد لا يُقابل بالتجريم”. وكان كثيرًا ما يردد: “نحن في حاجة إلى عقول تفكر، لا إلى ألسنة تكرر.”
ترك الإمام الأكبر بصمته في الفكر الإسلامي من خلال عشرات المؤلفات أبرزها:
“التفسير الوسيط للقرآن الكريم” ، الذي يُعد من أنضج التفاسير العصرية وأوسعها انتشارًا، و “بنو إسرائيل في القرآن الكريم” ، و“القصة في القرآن الكريم” ، و“الدعاء” ، وكلها أعمال جسدت فكره الوسطي المتزن ولغته الرفيعة.
نال تقدير العالم الإسلامي، فحصل على الدكتوراه الفخرية في صنع السلام عام 1995م، وشارك في مؤتمرات عالمية، وكان من العلماء الذين دُعوا لإلقاء الدروس الحسنية الرمضانية أمام الملك محمد السادس في المغرب، وهي شهادة دولية لمكانته العلمية والفكرية.
رحل الشيخ محمد سيد طنطاوي في العاشر من مارس 2010م أثناء زيارته الرسمية للمملكة العربية السعودية، ودُفن في البقيع الشريف بالمدينة المنورة، في مشهد يليق بعالمٍ عاش حياته مدافعًا عن روح الإسلام، مجددًا في فكره، مخلصًا في دعوته.
لقد رحل الإمام الأكبر، لكن فكره الإصلاحي لا يزال حاضرًا في كل من يؤمن بأن الإسلام دين عقلٍ ورحمة، وأن الأزهر كان وسيظل منبر الوسطية وقلعة الاعتدال.