على مسافة واحدة من الزمن المتكرر حين نقول "أكتوبر"، وعلى مسافة اثنين وخمسين عامًا حين نشير إلى "العبور"، يتحقق عبورٌ جديد، زاهٍ يستمد قواه وعنفوانه وزهوه من مد الجسور الأولى وتجاوز ما يتوهمه البعض مستحيلًا، ولم نزل نجني ثمراتُ شهر النصر العظيم من شجرةِ نفحاته، وقد هالنا المشهد الإنساني البديع لعودة أشقائنا من أبناء غزة النازحين، الذين أنهكتهم الحرب وأتعبهم النزوح المستمر وهم الفاقدون لذويهم وبينهم المصابون في أجسادهم وأرواحهم جراء حرب قذرة استمرت على مدار الساعة لأكثر من عامين، حتى جاءت البشرى المصرية برعاية اتفاقية وقف إطلاق النار في غزة، ثم قمة شرم الشيخ التي جمعت قادة العالم وفي القلب منهم قائد همام أكد بما لا يدع مجالًا لأي ذرةٍ من شك، أنه الرمز الذي يليق بتاريخ الوطن، والواجهة التي تليق بحضارته، ونبراس الحكمة الذي يقتدي به السائرون في دروب السلام للأوطان.
لم تكن مشاهد العائدين إلى أطلال الديار ببهجة كل أرواحهم، مشاهد مصطنعة، وهم يحملون العلمين الفلسطيني والمصري، ملوحين للجميع بالرايات المرتفعة، أن هذا هو الوطن الذي لن يغادروه مهما تكالبت عليهم حروب، ومن هنا امتنوا لدعم الأم التي حاربت من قبل وحررت واحتضنت ورفضت فيما بعد تهجيرهم، وقدمت ولا تزال كل الدعم من أجل نصرة قضيتهم، تلك القضية التي لم تكن فقط معقدة بالوضوح البادي من الاحتلال كذراع خبيثة زرعها الغرب في المنطقة منذ أكثر من سبعين عامًا، وصولًا إلى تلك المأساة الكبرى التي خلفها بالحرب والدمار والقتل والحرق، حتى كان الشهداء والمصابون والخراب في جميع الأنحاء، الضريبة الأغلى التي سددها الفلسطينيون من أعمارهم وأحلامهم، لتدرك شعوب العالم حقيقة الصورة المغلوطة، ولتضغط على حكوماتها بالاحتجاجات التي ملأت مدن وشوارع الأرض لوقف الإبادة ومحاكمة الاحتلال وحكومته المجرمة، والوصول إلى حلم كان بعيد المنال باعتراف العالم بأن للفلسطينيين حقًا في دولة مستقلة آمنة، وهو النداء الذي لم تتوان مصر عن إطلاقه، حتى في لحظة التتويج بإعلاء كلمة الحق من شرم الشيخ، وحين نادى الرئيس السيسي في خطابه الذي سمعته شعوب العالم بدولة فلسطين الحرة المستقلة، وحق الشعب الفلسطيني في أن يقرر مصيره، وأن يتطلع إلى مستقبل لا يخيم عليه شبح الحرب، وحقه في أن ينعم بالحرية، والعيش في دولته المستقلة، وكيف قال في خطابه "القدس"، وكيف نادى الطرف الآخر ليس بقائد أو حاكم، ولكن قال أتوجه بنداء إلى شعب إسرائيل، في خطابٍ مفوه مليء بالدلالات والإشارات، يمثل خطوة جديدة وموقفًا في مسار أمامي انتهجته مصر للحفاظ على حق الفلسطينيين في وطنهم، حتى عادوا في اليوم التالي عودةً مشهودة وأُدخلت آلاف الأطنان من الأغذية والمساعدات، ولقد كان مشهدًا معبرًا للغاية لطفلة من غزة في مقطع مصور تقول فيه "نجوت من الموت لأبقى شاهدة على وطن ينهض من تحت الركام.. نحن أحياء وللحلم بقية"
ومن هنا، من هذه النقطة تحديدًا، بقية الحلم، كان السؤال، ربما الأكثر قلقًا، هل يكتمل الحلم بتوحيد الصف الفلسطيني، وقد رأينا مشهدًا غائمًا لما يسمى بعناصر العصابات التي تتعاون مع الاحتلال، والتي قيل إن رجال المقاومة يعملون على تطهير غزة منهم وهم المتعاونون مع الاحتلال، وسمعنا أن أصدرت وزارة داخلية غزة عفوًا عامًا عن العصابات غير المتورطة في القتل إذا سلموا أنفسهم، وقيل إن هذه الميلشيات الإجرامية والعصابات التابعة والمدعومة والممولة من الاحتلال تأخذ أكبر من حجمها، وهي من عائلات محدودة مثل "دغمش"، و"المنسي"، و"أبو شباب" و”الأسطل" وأن حماس تنفذ في المتورطين منهم بقتل الفلسطينيين ونهب المساعدات من قبل عقوبات يستحقونها.
هذه الصورة تأتي توازيًا مع مماطلة الاحتلال المتوقعة، والذي دفع بحجة عدم تسلم رفات الرهائن وبعض الجثث، على الرغم من المقاومة قد سلمت الرهائن الأحياء وفق الاتفاق، بينما خرج الأسرى الفلسطينيون وعليهم مشاهد التعذيب، خرجوا ليجدوا أنفسهم بين أطلال فاقدين آباءهم وأبناءهم وذويهم، وهددت حكومة الاحتلال على لسان يسرائيل كاتس وزير الجيش بالعودة إلى القتال في القطاع إن لم ترجع حماس بقية جثث الرهائن، بعد أن قالت الحركة إنها لا تستطيع إعادة مزيد من الرفات، لأسباب لوجستية، وأعلنت عن حاجتها لمعدات خاصة.
وقال كاتس إنه بالتنسيق مع الولايات المتحدة، ستستأنف القتال وتغيير الواقع في غزة، وتحقيق أهداف الحرب بالقضاء على حماس، ومن المؤسف أن يؤيد الرئيس الأمريكي ترامب هذه المقولة فيما بعد بقوله إنه يمكن أن يقضي على حماس وأن تعود الحرب مجددًا، أي أن هناك إمكانية لنسف ما تحقق على الأرض حتى الآن، ومن الغريب أنه قال ذلك وقد سبقه بتأكيد تفهمه لتعاون حركة حماس وجديتها في تسليم الرهائن والجثث، وبالفعل لم يلتزم جيش الاحتلال وقام ببعض العمليات وغارات المكثفة في جميع أنحاء قطاع غزة"، رغم توقيع اتفاق وقف إطلاق النار بين الفصائل الفلسطينية وسلطات الاحتلال في التاسع من أكتوبر الجاري.
وكان ضروريًا التحسب للمماطلات الإسرائيلية الأمريكية المتوقعة، والعمل بجد على أن تخلص جميع الفصائل داخل غزة وفي كل فلسطين إلى التوحد وإلقاء أي نزعات جانبًا، والالتفاف حول كلمة واحدة مفادُها "الوطن فلسطين"، هذه الدولة التي لم يمل الرئيس ولم يكل في التمسك بحق وجودها في كل محفل، مساندًا وداعمًا ليس بصوته وحسب، وإنما بصوت شعب مصر الواثق في قيادته، ولقد شهد العالم والمصريون والفلسطينيون كيف أن مشاركة الرئيس في القمة المصرية الأوروبية، بالعاصمة البلجيكية بروكسل ولقائه بالسيدة روبرتا ميتسولا، رئيسة البرلمان الأوروبي، واستعراضه جهود مصر في ترسيخ الاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط، والوساطة التي أفضت إلى التوصل لاتفاق لوقف الحرب في غزة، وصولًا لقمة شرم الشيخ للسلام بمشاركة دولية رفيعة المستوى، لتأكيد ضرورة تثبيت وقف إطلاق النار، وأهمية إدخال المساعدات الإنسانية، وتقديم الرعاية الطبية اللازمة للجرحى والمصابين، لتؤكد روبرتا ميتسولا أن الاتحاد الأوروبي يدفع نحو تطبيق حل الدولتين. وتعرب عن تقديرها الكبير للدور المحوري الذي تضطلع به مصر في المنطقة، وتشيد بهذه السياسة الحكيمة والمتزنة، التي تعتبرها ركيزة أساسية للاستقرار في الشرق الأوسط وجنوب المتوسط، ولتدعو جمهورية مصر العربية، برعاية القائد الملهم، عددًا من الفصائل الفلسطينية ويُعد اجتماع في القاهرة تُبحث فيه تطورات القضية الفلسطينية وتتم مناقشة المرحلة الثانية من خطة ترامب لوقف الحرب على قطاع غزة، في إطار التمهيد لحوار شامل لحماية المشروع الوطني واستعادة الوحدة الوطنية، يخلص إلى بيان مشترك من الفصائل اتفق فيه على على ضرورة وحدة الصف وورفض التهجير، وتشكيل لجنة تكنوقراط مؤقتة لإدارة غزة، تضم شخصيات مستقلة، وضرورة الالتزام ببنود اتفاق وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة، وفتح جميع المعابر أمام المساعدات الإنسانية، البدء في عملية إعمار شاملة وإدخال الاحتياجات الطبية العاجلة، وتشكيل لجنة دولية للإشراف على إعادة الإعمار وتمويل المشروعات، وإنهاء الانتهاكات بحق الأسرى الفلسطينيين بالسجون، انسحاب جيش الاحتلال من قطاع غزة بالكامل.
وها هي خطى مصر الواثقة وكلمتها العليا المسموعة تتحقق بالسلم لا بالحرب، وصولًا إلى صورة مثلى لمجتمع فلسطيني في دولة تتشكل، وإشراك المجتمع الدولي لتحمل مسئوليته في تنفيذ هذه الصورة الأشمل للسلام، وقطع الطريق على الاحتلال وأعوانه في أي تسويف أو مماطلة أو دفع بحجج لإعادة الحرب.
فإن وحدة الفلسطينيين وصد مناورات الاحتلال، هما الخطى الأولى في اكتساب مساحات أخرى من انتصارات متحققة، وأول سبيل واضح في الطريق الذي تم تمهيده لذلك من مصر.