هل تخيلت يومًا أن تخبرك آلة ذكية بأنك قد تصاب بمرض ما بعد عشرين عامًا؟
قد يبدو ذلك مشهدًا من فيلم خيال علميِّ، لكن الواقع تجاوز الخيال؛ فالذكاء الاصطناعي اليوم لا يكتفي بمساعدة الأطباء في التشخيص والجراحة، بل بدأ يتنبأ بما يخبئه المستقبل لصحتنا بدقة مذهلة.
من المختبرات الأوروبية إلى غرف العمليات، بدأت تتكشف ملامح عصر جديد يصبح فيه الذكاء الاصطناعي طبيبًا وجراحًا وشريكًا في صنع القرار الطبي.
ففي السنوات الأخيرة، لم يعد الذكاء الاصطناعي محصورًا في تحليل صور الأشعة أو دعم العمليات الجراحية فحسب، بل تطور ليصبح أداة تتنبأ بالمخاطر الصحية قبل أن تظهر الأعراض بسنوات طويلة.
أحد أبرز الإنجازات الأوروبية الحديثة في هذا المجال هو نظام Delphi 2M، الذي طوره باحثون في المختبر الأوروبي لعلم الأحياء الجزيئي ومؤسسات أخرى، ليقوم بتحليل البيانات الصحية للأفراد وتوقع احتمال إصابتهم بأكثر من ألف مرض على مدى العقود القادمة.
تم تدريب هذا النظام على بيانات نحو 400 ألف شخص في بريطانيا، وتم اختباره على ما يقرب من مليوني سجل طبي من الدانمارك، وحقق نتائج دقيقة في التنبؤ بأمراض مزمنة مثل السكر وأمراض القلب والسرطان.
ومن دون شك، فإن تطبيق هذا التطور يحمل مزايا هائلة في تخطيط السياسات الطبية لأي دولة، لكنه في الوقت نفسه قد يشكل خطرًا مستترًا على كثير من الناس.
فقد لا يمر وقت طويل حتى تصبح من ضمن مسوغات التعيين في أي وظيفة جديدة، إلى جانب صحيفة الحالة الجنائية "الفيش والتشبيه"، صحيفة حالة طبية "فيش وتشبيه طبي" تؤكد خلو المتقدم من الأمراض المزمنة أو المستعصية، مدعمة بوسائل وتطبيقات الذكاء الاصطناعي!
وهذا يشكل تمييزًا خطيرًا ضد كثير من الناس؛ إذ قد يحرم البعض من وظائف معينة فقط لأن الذكاء الاصطناعي توقع احتمال إصابتهم بمرض ما مستقبلًا، خاصة أن قائمة التنبؤات تضم أكثر من ألف مرض.
أما كونه جراحًا، تكشف الدراسات أن الذكاء الاصطناعي اليوم لا يرى فقط ما تراه أعين الأطباء، بل يغوص في تفاصيل لا يمكن للبشر ملاحظتها بسهولة، إذ يمكنه تفسير الصور الطبية بدقة بالغة.
ووفق دراسات بحثية نشرت في دوريات علمية مهمة، فإن الذكاء الاصطناعي قادر على دعم الصحة العامة، ليس فقط على مستوى الأفراد، بل على مستوى السكان عامة، من خلال تحليل كميات ضخمة من البيانات وتقديم توصيات دقيقة تساعد على الوقاية والعلاج.
الجانب الأكثر إثارة هو أن هذه الأنظمة لم تعد تنتظر أن يتوجه المريض إلى الطبيب، بل تتحرك بخطوات استباقية، ترصد المؤشرات المبكرة، وتبلغ المريض والطبيب معًا بما يجب فعله قبل أن تتحول الحالة إلى مرض فعليًّا.
وهذا يعني أنها لم تعد مجرد أدوات مساعدة، بل شركاء رقميون يشاركون في اتخاذ القرار، ويسهمون في تحويل مفهوم الرعاية الصحية من "الاستجابة للمرض" إلى "الوقاية منه".
لكن هل يعني ذلك أن الذكاء الاصطناعي سيلغي دور الطبيب البشري؟ بالطبع لا، فالذكاء الاصطناعي ليس جاهزًا بعد ليكون طبيبًا مستقلاً، وهو ما يطمئن أولئك الذين يخشون تسليم أنفسهم لآلة تشخص أمراضهم وتعالجها دون تدخل بشري. فما زال الأمر، بل وسيظل، بحاجة إلى أطباء بشريين يتخذون القرار النهائي، ويفسرون نتائج الأنظمة الذكية ضمن قواعد إنسانية وأخلاقية معقدة.
خلاصة القول، إن الذكاء الاصطناعي في الطب لم يعد خيالًا علميًّا، لكنه أيضًا لن يكون بديلًا عن الطبيب، بل شريك فاعل يبشر بثورة حقيقية في طرق التشخيص والعلاج والوقاية. ومن لا يواكب هذا التحول، قد يجد نفسه خارج إيقاع الزمن الطبي القادم.