منذ اكتشافها في القرن العشرين، مثّلت المضادات الحيوية ثورة طبية أنقذت ملايين الأرواح، وحوّلت أمراضاً كانت قاتلة إلى أمراض قابلة للعلاج .. لكن، ما كان يُنظر إليه كسلاح سحري ضد البكتيريا تحوّل اليوم إلى تهديد للصحة العامة، بسبب الاستخدام غير الرشيد والمفرط.
موضوعات مقترحة
إن الإفراط في تناول هذه الأدوية، أو استخدامها في غير موضعها، لا يهدد بظهور ما يُعرف بـ "الجراثيم الخارقة" المقاومة للعلاج فحسب، بل يمتد تأثيره ليُحدث دماراً صامتاً في "الدرع الواقية" لجسم الإنسان، جهاز المناعة.
هذا التقرير يفتح ملف الاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية وتأثيره الكارثي على صحتنا المستقبلية.
لماذا لا تصلح المضادات الحيوية لعلاج الأمراض الفيروسية؟
تعتمد وظيفة المضادات الحيوية على قتل البكتيريا أو منع تكاثرها، وهي مصممة لمواجهة العدوى البكتيرية فقط. لكن الثقافة الشائعة، التي تصر على تناولها عند أول بادرة لمرض، حتى لو كان السبب فيروسياً كنزلات البرد والإنفلونزا، تقودنا إلى كارثة صحية حقيقية.
ما الذي يجعل الاستخدام العشوائي للمضادات الحيوية خطراً خفياً على جهاز المناعة؟
وفي هذا الإطار، أكد الدكتور طارق سليمان، استشاري الأمراض الباطنية والمناعة، أن الخطر الأكبر لا يقتصر على المقاومة البكتيرية، وأن المضادات الحيوية لا تستطيع التمييز بين البكتيريا الضارة التي تسبب المرض والبكتيريا النافعة التي تُشكل جزءاً أساسياً من جهازنا المناعي، بخاصة تلك التي تستوطن الأمعاء وتُعرف باسم "الميكروبيوم المعوي".
كيف يؤثر تدمير البكتيريا النافعة في الأمعاء على المناعة؟
أضاف الدكتور سليمان، شارحاً آلية التدمير، أن الميكروبيوم المعوي هو منظومة معقدة من الكائنات الحية الدقيقة التي تلعب دوراً محورياً في تدريب الجهاز المناعي، وهضم الطعام، وإنتاج الفيتامينات الأساسية، وعندما يتناول الشخص مضاداً حيوياً، يتم القضاء على أعداد كبيرة من هذه البكتيريا النافعة، مما يُحدث خللاً في التوازن الحيوي للأمعاء، وهو ما يُعرف بـ"اختلال الميكروبيوم". ويُعتبر هذا الاختلال بمثابة ضربة قاصمة للمناعة.
وأشار الدكتور سليمان إلى أن هذا التدمير قد يؤدي إلى نتائج وخيمة تتجاوز اضطرابات الجهاز الهضمي المعتادة، واستطرد قائلاً إن ضعف الميكروبيوم المعوي يرتبط بزيادة خطر الإصابة بالحساسية، وأمراض المناعة الذاتية، مثل أمراض الأمعاء الالتهابية، بل وهناك دراسات تربطه بالاضطرابات المزاجية والنفسية كالقلق والاكتئاب، نظراً للارتباط الوثيق بين الأمعاء والدماغ.
مخاطر الإفراط في استخدام المضادات الحيوية في الطفولة
أكد الدكتور سليمان، أن الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية في الطفولة المبكرة يزيد احتمالية حدوث السمنة واضطرابات في التمثيل الغذائي لاحقاً في الحياة، وذلك بسبب التغيرات الدائمة التي تحدث في تكوين الميكروبيوم.. أما الخطر الأبرز والأكثر إلحاحاً، فهو مقاومة المضادات الحيوية.
وأشار الدكتور سليمان إلى أن الجرثومة الخارقة هي بكتيريا طوّرت آليات دفاعية تجعلها محصنة ضد المضادات الحيوية، وأصبحنا نشهد اليوم حالات عدوى لا تنجح معها أية علاجات متوفرة. هذه المقاومة هي نتيجة مباشرة للاستخدام غير الضروري والجرعات غير المكتملة.
كيف يمكننا مواجهة خطر المقاومة البكتيرية؟
وأوضح الدكتور سليمان، أنه لمواجهة هذا التحدي العالمي الذي تُشير إليه منظمة الصحة العالمية بأنه أحد أكبر التهديدات الصحية، يتطلب الأمر تضافر الجهود فعلى المستوى الفردي، يجب على الأفراد الامتناع عن تناول المضادات الحيوية دون وصفة طبية، وعدم الإلحاح على الطبيب لوصفها في حال كانت العدوى فيروسية.
كما شدد على ضرورة الالتزام بالجرعة ومدة العلاج كاملة التي يحددها الطبيب، حتى لو شعر المريض بالتحسن المبكر، لضمان القضاء التام على جميع البكتيريا ومنع تكوّن السلالات المقاومة.
وأكد على الأطباء والصيادلة العمل بمسؤولية أكبر، وتجنب الوصف العشوائي للمضادات الحيوية، مشيراً إلى أهمية إجراء "مزرعة بكتيرية" قبل البدء بالعلاج في حالات العدوى الشديدة لتحديد البكتيريا بدقة واختيار المضاد الحيوي ضيق الطيف والأكثر فعالية، بدلاً من استخدام المضادات واسعة الطيف عشوائياً.
لماذا يجب إعادة النظر في طريقة تعاملنا مع المضادات الحيوية؟
أضاف الدكتور سليمان أن المضادات الحيوية تظل اكتشافاً عظيماً، لكن يجب التعامل معها بالاحترام الذي تستحقه كأداة قوية وليست حلاً سحرياً لكل مرض، فإن مستقبل صحتنا العامة وجهازنا المناعي مرهون بمدى وعينا وتصرفنا المسؤول اليوم.
ويجب أن يتحول الوعي بمخاطر الإفراط في الاستخدام إلى سلوك يومي، بحيث تصبح المضادات الحيوية الملاذ الأخير لعلاج العدوى البكتيرية، وليس الخيار الأول، وإن حماية مناعتنا تبدأ من الحفاظ على التوازن الدقيق داخل أجسادنا، والدروس المستفادة من تدمير الميكروبيوم المعوي تؤكد أن السلاح الذي ينقذ حياتنا يجب أن يُستخدم بحكمة بالغة كي لا يتحول إلى نقمة.