شهدَ العالمُ في عصرِنا الحاضرِ تزايدًا سكانيًا غيرَ مسبوقٍ في تاريخِ الإنسانيةِ، فقد ارتفعَ عددُ سكانِ الأرضِ من نحوِ مليارِ نسمةٍ في مطلعِ القرنِ التاسعِ عشرَ إلى ما يزيدُ على ثمانيةِ ملياراتٍ اليومَ، وفقَ تقديراتِ الأممِ المتحدةِ لعامِ 2025.
يرجعُ هذا النموُّ السريعُ إلى التقدمِ الكبيرِ في الطبِّ والرعايةِ الصحيةِ وتحسُّنِ مستوياتِ المعيشةِ، مما أدَّى إلى انخفاضِ معدلاتِ الوفياتِ وارتفاعِ متوسطِ الأعمارِ. غيرَ أنَّ هذا النموَّ لم يكنْ متوازنًا في جميعِ أنحاءِ الأرضِ، إذ تشهدُ بعضُ الدولِ الناميةِ انفجارًا سكانيًا متسارعًا يقابلُهُ تراجعٌ ملحوظٌ في معدلاتِ الإنجابِ في كثيرٍ من الدولِ المتقدمةِ، الأمرُ الذي أوجدَ تفاوتًا سكانيًا واقتصاديًا واضحًا بينَ الشمالِ والجنوبِ.
وفي مقابلِ هذا التزايدِ في أعدادِ البشرِ، تقفُ مواردُ الأرضِ الطبيعيةُ محدودةً أمامَ احتياجاتٍ متناميةٍ. فالمياهُ العذبةُ والغذاءُ والطاقةُ والمعادنُ جميعُها مواردُ لا يمكنُ تجديدُها بسرعةٍ تكفي لتلبيةِ مطالبِ البشرِ المستمرةِ حتى باتتِ البشريةُ تستهلكُ اليومَ أكثرَ مما تستطيعُ الأرضُ تجديدَهُ في العامِ الواحدِ.
تشيرُ دراساتٌ بيئيةٌ حديثةٌ إلى أنَّ الإنسانَ يعيشُ في حالةٍ من العجزِ البيئيِّ، إذ تحتاجُ الأرضُ إلى ما يقاربُ عامًا ونصفَ لتجديدِ ما يستهلكُهُ الإنسانُ في عامٍ واحدٍ فقط، وتُعدُّ أزمةُ المياهِ أبرزَ مظاهرِ هذا الاختلالِ، حيثُ يواجهُ أكثرُ من ثلثِ سكانِ العالمِ خطرَ ندرةِ المياهِ، فضلًا عن تدهورِ التربةِ واتساعِ رقعةِ التصحرِ نتيجةَ الاستغلالِ المفرطِ والتغيراتِ المناخيةِ المتسارعةِ.
لقد تطورتْ علاقةُ الإنسانِ بمواردِ الأرضِ عبرَ التاريخِ تطورًا يعكسُ مسارَ الحضارةِ ذاتَها. ففي العصورِ القديمةِ، كانتْ تلكَ العلاقةُ قائمةً على التوازنِ والتكافلِ، فالإنسانُ كانَ يعيشُ في انسجامٍ مع الطبيعةِ، لا يأخذُ منها إلا ما يكفيهِ، ويعيدُ إليها ما لا يحتاجُهُ. ومعَ بدايةِ الثورةِ الصناعيةِ في القرنِ الثامنِ عشرَ، تبدَّلتِ الموازينُ، وبدأَ الإنسانُ في استغلالِ مواردِ الأرضِ بصورةٍ مكثفةٍ لتغذيةِ المصانعِ والمدنِ الحديثةِ، فارتفعتْ معدلاتُ التلوثِ وتزايدتِ الانبعاثاتُ الحراريةُ وتدهورتِ البيئةُ تدريجيًا.
ثم جاءتِ الثورةُ التقنيةُ والتكنولوجيةُ في القرنِ العشرينَ لتضاعفَ من وتيرةِ الاستهلاكِ، فأصبحتِ المواردُ تُدارُ بمنطقِ الربحِ والسرعةِ، لا بمنطقِ الاستمرارِ والتوازنِ، وتحولتْ علاقةُ الإنسانِ بالأرضِ من علاقةِ شراكةٍ إلى علاقةِ استنزافٍ وسيطرةٍ.
واليومَ، يطرحُ المستقبلُ سؤالًا جوهريًا يهمُّ مصيرَ الأجيالِ القادمةِ، وهو إلى أيِّ مدى يمكنُ لمواردِ الأرضِ أنْ تكفيَ حاجاتِ هذا العددِ المتزايدِ من البشرِ؟ ومهما كانتِ الإجابةُ فمنَ المؤكدِ أنَّ المسارَ الذي ستسلكُهُ البشريةُ في العقودِ المقبلةِ هو الذي سيحسمُ النتيجةَ. فإذا استمرتْ أنماطُ الاستهلاكِ الحاليةِ على ما هي عليهِ، فقد تحتاجُ البشريةُ إلى كوكبٍ ونصفَ لتغطيةِ احتياجاتِها بحلولِ منتصفِ القرنِ الحاديِ والعشرينَ. أما إذا تبنتِ الدولُ سياساتٍ رشيدةً تعتمدُ على الطاقةِ المتجددةِ والاقتصادِ الدائريِّ وإعادةِ التدويرِ والزراعةِ المستدامةِ، فإنَّ الأملَ يبقى قائمًا في استعادةِ التوازنِ بينَ النموِّ السكانيِّ والمواردِ الطبيعيةِ. كما نأملُ أنْ تسهمَ التكنولوجيا الحديثةُ والذكاءُ الاصطناعيُّ في تحسينِ إدارةِ المواردِ وكفاءةِ استخدامِها، عبرَ ابتكاراتٍ في تحليةِ المياهِ والزراعةِ الدقيقةِ وإنتاجِ الطاقةِ النظيفةِ.
إنَّ العلاقةَ بينَ الإنسانِ ومواردِ الأرضِ ليستْ مجردَ مسألةٍ اقتصاديةٍ أو بيئيةٍ، بل هي مرآةٌ لوعيِ الإنسانِ ومسؤوليتِهِ تجاهَ الكوكبِ الذي يحتضنُهُ. فالأرضُ، رغمَ عطائِها السخيِّ، ليستْ بلا حدودٍ، وإنَّ استمرارَ الحياةِ عليها مرهونٌ بقدرتِنا على ترشيدِ الاستهلاكِ وصونِ المواردِ للأجيالِ القادمةِ. وهكذا تقفُ الإنسانيةُ اليومَ على مفترقِ طرقٍ، فإما أنْ تسلكَ دربَ الوعيِ والاستدامةِ، وإما أنْ تواصلَ طريقَ الاستنزافِ الذي قد يقودُها إلى مستقبلٍ يعجزُ فيهِ الكوكبُ عن تلبيةِ أبسطِ متطلباتِ الحياةِ.