لاحظَ الكثيرُ من المراقبينَ الغربيينَ أنَّ مصرَ تديرُ بهدوءٍ واحترافيةٍ دبلوماسيةٍ شديدةٍ التحولَ الأوروبيَّ غيرَ المسبوقِ تجاهَ الصراعِ العربيِّ الإسرائيليِّ لصالحِ فلسطينَ.
ولعلَّ من أبرزِ المنعطفاتِ نجاحَ مصرَ في الارتقاءِ بعلاقاتِها مع الاتحادِ الأوروبيِّ لمستوى "الشراكةِ الإستراتيجيةِ". وشهدتِ الأيامُ الماضيةُ عقدَ القمةِ المصريةِ الأوروبيةِ الأولى، والتي تعكسُ ثقةَ قادةِ أوروبا في مصرَ ودورِها الإقليميِّ المتوازنِ في توقيتٍ بالغِ الأهميةِ.
ونجحتِ القاهرةُ في تحقيقِ عدةِ مكاسبَ للقضيةِ الفلسطينيةِ، وأبرزُها: تأكيدُ الاتحادِ الأوروبيِّ التزامَهُ الثابتَ بسلامٍ دائمٍ ومستدامٍ على أساسِ حلِّ الدولتينِ، وفقًا لقراراتِ مجلسِ الأمنِ وإعلانِ نيويوركَ، بحيثُ تعيشُ دولةُ إسرائيلَ ودولةُ فلسطينَ ذاتُ السيادةِ والقابلةُ للحياةِ جنبًا إلى جنبٍ في سلامٍ وأمنٍ واعترافٍ متبادلٍ.
كما أعربَ عن قلقِهِ إزاءَ الوضعِ في الضفةِ الغربيةِ، وندَّدَ بشدةٍ بعنفِ المستوطنينَ وتوسيعِ المستوطناتِ غيرِ القانونيةِ بموجبِ القانونِ الدوليِّ، ورفضَ تمامًا أيَّ محاولاتٍ للضمِّ أو التهجيرِ الفرديِّ أو الجماعيِّ للفلسطينيينَ من أيِّ جزءٍ من الأراضي المحتلةِ.
وشدَّدَ الاتحادُ الأوروبيُّ على مواصلةِ دعمِ السلطةِ الفلسطينيةِ، وبرنامجِها الإصلاحيِّ وقواتِها الأمنيةِ، وتأييدِ إنشاءِ لجنةٍ فلسطينيةٍ مؤقتةٍ تكنوقراطيةٍ وغيرِ سياسيةٍ، مع التأكيدِ على ضرورةِ توحيدِ غزةَ والضفةِ الغربيةِ تحتَ سلطةٍ واحدةٍ، وإنهاءِ حكمِ حركةِ حماسَ في غزةَ، وفقَ سياسةِ دولةٍ واحدةٍ، وقانونٍ واحدٍ، وحكومةٍ واحدةٍ، وسلاحٍ واحدٍ.
كما أكدَ التزامَهُ بإعادةِ إعمارِ غزةَ من خلالِ المؤتمرِ الدوليِّ الذي تستضيفُهُ مصرُ بعدَ تثبيتِ وقفِ إطلاقِ النارِ الدائمِ، ومن خلالِ مجموعةِ المانحينَ لفلسطينَ. ولقد أعلنَ قادةُ أوروبا التزامَهم بهذهِ المواقفِ المهمةِ لصالحِ الفلسطينيينَ في بيانٍ مشتركٍ عقبَ قمةِ الرئيسِ عبدالفتاح السيسيِّ مع قادةِ الاتحادِ الأوروبيِّ.
ورحَّبَ الاتحادُ الأوروبيُّ بالاتفاقِ على المرحلةِ الأولى من الخطةِ الشاملةِ لإنهاءِ الصراعِ في غزةَ التي طرحَها الرئيسُ الأمريكيُّ دونالدْ ترامبْ، وكذلك بنتائجِ قمةِ شرمِ الشيخَ للسلامِ المنعقدةِ في 13 أكتوبر، داعيًا جميعَ الأطرافِ إلى مواصلةِ العملِ على تنفيذِ الخطةِ، مع الترحيبِ بجهودِ الوساطةِ المصريةِ في هذا الصددِ.
وأعربَ الاتحادُ الأوروبيُّ عن قلقِهِ العميقِ إزاءَ الوضعِ الإنسانيِّ الكارثيِّ في غزةَ، مطالبًا بضمانِ وصولِ المساعداتِ الإنسانيةِ الآمنِ والسريعِ ودونَ عوائقَ، واستعادةِ الخدماتِ الأساسيةِ، لا سيما البنيةَ التحتيةَ الطبيةَ.
وأكدَ أنَّ ضمانَ إيصالِ المساعداتِ الإنسانيةِ الكاملةِ إلى قطاعِ غزةَ، بقيادةِ الأممِ المتحدةِ ووكالاتِها، بما في ذلكَ "الأونروا"، يشكِّلُ أولويةً محوريةً للاتحادِ الأوروبيِّ ومصرَ.
وهو ما دفعَ الاتحادَ الأوروبيَّ، في مايو 2025 إلى الإعلانِ عن بدءِ مراجعةِ "اتفاقيةِ الشراكةِ بينَ الاتحادِ وإسرائيلَ"، وخرجتْ مظاهراتٌ حاشدةٌ في عدةِ دولٍ أوروبيةٍ دعمًا للشعبِ الفلسطينيِّ. ويُعتقدُ أنَّ هذا التوافقَ الشعبيَّ خلقَ ضغطًا سياسيًا كبيرًا على حكوماتِ الاتحادِ الأوروبيِّ، وأجبرَها على إعادةِ النظرِ في سياساتِها.
في الوقتِ ذاتِهِ، أبرزتِ التطوراتُ المتلاحقةُ أنَّ "الاستمرارَ في دعمِ إسرائيلَ لم يعدْ يتماشى مع المصالحِ الجوهريةِ لأوروبا". وفسرَ بعضُ المراقبينَ ذلكَ بالتأكيدِ أنَّهُ "في الماضي، كانَ دعمُ الاتحادِ الأوروبيِّ لإسرائيلَ مدفوعًا في المقامِ الأولِ بأنظمةٍ سياسيةٍ متشابهةٍ وقيمٍ مشتركةٍ، بالإضافةِ إلى احترامِ الولاياتِ المتحدةِ وطاعتِها، لكنَّ اليومَ، تُقوِّضُ تصرفاتُ إسرائيلَ في الشرقِ الأوسطِ بشدةٍ المصالحَ الحيويةَ للاتحادِ الأوروبيِّ".
ويضيفُ هؤلاءِ أنَّ الصراعَ الروسيَّ الأوكرانيَّ أدَّى إلى أزماتٍ في إمداداتِ الطاقةِ وسلاسلِ التوريدِ في أوروبا، مما دفعَ دولَ الاتحادِ إلى البحثِ عن مصادرِ نفطٍ وغازٍ من الشرقِ الأوسطِ".
وفي الوقتِ نفسِهِ يهدِّدُ دعمُ إسرائيلَ بإغضابِ الدولِ العربيةِ، ويعرِّضُ أمنَ الطاقةِ الأوروبيَّ لمزيدٍ من المخاطرِ، وبالتالي، أصبحتْ أوروبا ترى أنَّهُ في إطارِ السعيِ نحو تعزيزِ استقلاليتِها الاستراتيجيةِ، فإنَّ النأيَ بنفسِها عن إسرائيلَ وتعزيزَ علاقاتٍ أوثقَ مع دولِ الشرقِ الأوسطِ يُعدُّ خيارًا عمليًا للدبلوماسيةِ الأوروبيةِ".
إضافةً إلى ذلكَ، يلفتُ الخبراءُ النظرَ إلى التغيراتِ في تركيبةِ المجتمعاتِ الأوروبيةِ اليومَ، ويؤكدونَ أنَّهُ عندَ النظرِ إلى المجتمعِ الأوروبيِّ حاليًا، يمكنُ ملاحظةُ تغيراتٍ تدريجيةٍ في التركيبةِ السكانيةِ والدينيةِ. وتجدرُ الإشارةُ هنا إلى أنَّهُ منذُ أوائلِ القرنِ الحاديِ والعشرينَ، أدَّتِ الاضطراباتُ السياسيةُ في شمالِ إفريقيا والشرقِ الأوسطِ إلى موجاتٍ كبيرةٍ من اللاجئينَ والمهاجرينَ إلى أوروبا.
وساهمتْ هذهِ التطوراتُ في تدفقِ مجموعاتٍ كبيرةٍ من المهاجرينَ العربِ واللاجئينَ والشعوبِ الإفريقيةِ من شمالِ إفريقيا، ما أثَّرَ تدريجيًا على البنيةِ الاجتماعيةِ الأوروبيةِ التقليديةِ المهيمنةِ عليها أغلبيةٌ بيضاءُ ومسيحيةٌ، ونتيجةً لذلكَ، أصبحتِ الأصواتُ الشعبيةُ الداعمةُ للشعبِ الفلسطينيِّ والمنددةُ بإسرائيلَ، خاصةً في الاحتجاجاتِ الشعبيةِ، واقعًا لا يمكنُ لصناعِ القرارِ في أوروبا تجاهلُهُ.
ولقد باتَ واضحًا أنَّ الاتحادَ الأوروبيَّ ينظرُ إلى مصرَ كشريكٍ إستراتيجيٍّ حقيقيٍّ، وهو ما كانَ واضحًا في المشهدِ غيرِ المسبوقِ في الاحتفاءِ بالرئيسِ المصريِّ عندَ دخولِهِ المفوضيةَ الأوروبيةَ وسطَ تصفيقٍ حارٍّ من الأعضاءِ، مما يعكسُ المكانةَ الرفيعةَ التي باتتْ تتمتعُ بها مصرُ على الساحةِ الدوليةِ.
ويؤكدُ في المقابلِ أنَّ الطرفَ الخاسرَ الأكبرَ من نجاحِ القمةِ هو دولةُ الاحتلالِ الإسرائيليِّ، التي تراقبُ بقلقٍ التقاربَ الأوروبيَّ المصريَّ بعدَ توقيعِ اتفاقياتٍ جديدةٍ تعززُ الشراكةَ، وتفتحُ آفاقَ تعاونٍ لم تكنْ متاحةً من قبلُ، ولعلَّ أهمَّها أنَّ القاهرةَ باتتْ لها ثقلٌ لا يمكنُ تجاهلُهُ، وأصبحَ صوتُها مسموعًا، ويحظى بالاحترامِ في أوروبا.