مما لا شك فيه أننا نشاهد موجةً جديدةً من العلاقات المصرية الأوروبية على خلفية ما جرى الأسبوع الماضي في قمة بروكسل. قد يراها البعض قمةً لامعةً، أُحيطت بأفضل الأجواء السياسية والمجاملات والاحتفالية. لكن أوروبا لا توزع عطاياها هكذا بسهولة. فالاتحاد الأوروبي الذي يواجه معركةً شرسةً من أجل البقاء في مقابل هيمنةٍ شرسةٍ للولايات المتحدة الأمريكية وبسط نفوذٍ على كل بقعةٍ في العالم، يستطيع هذا الاتحاد أن يحافظ على علاقاته على الأقل في الإقليم. وهو في خضم معركته هذه يختار حلفاء لا غنى عنهم من جهة، ولا يستطيع صقور واشنطن الاحتجاج عليهم.
هذا التوازن الذي يبحث عنه الاتحاد الأوروبي هو من نوعية التوازن الذي تسعى إليه الدولة المصرية، التي أكدت للعالم أنها لا تبدل خياراتها، أو تتنازل عن رهاناتها، حسب الريح. لأن مصر ببساطة لم تُدِر ظهرها لحلفائها في المنطقة وخارجها، وتسير بدقةٍ في عالمٍ يتسم ببهلوانيةٍ عظيمةٍ أو سيركٍ كبيرٍ.
الوجود المصري في القلب من السياسة الأوروبية ليس جديداً، والعلاقة من أكثر الشراكات الإستراتيجية أهميةً بين الطرفين، سواء على المستوى السياسي أو الاقتصادي. وما قيل في بروكسل على هامش القمة لم يكن في إطار المجاملات الدبلوماسية. لقد بدأت العلاقات الاقتصادية مع الجانب الأوروبي في أول صورةٍ من صور التكامل الأوروبي (1957)، وهي "السوق الأوروبية المشتركة". كما تميزت العلاقات السياسية بالنوعية، مثل العلاقات مع يوغوسلافيا السابقة في شكل التميز النادر بين الزعيمين جمال عبدالناصر وجوزف بروز تيتو، ومع ألمانيا الشرقية السابقة وكل دول المعسكر الاشتراكي في أوروبا الشرقية، وفي مراحل تالية مع الزعيم الفرنسي الجنرال ديجول.
وفي عام 1980، دخل اتفاق التعاون مع الجماعة الأوروبية حيز التنفيذ، والذي ركز على الناحية الاقتصادية. ثم حدث التحول مع مبادرة برشلونة التي دشنت الشراكة الأورومتوسطية. لكن لنظل مع الجهة المصرية من أفق المتوسط الواسع، حيث تم توقيع اتفاقية الشراكة المصرية الأوروبية سنة 2001، ودخلت حيز التنفيذ في سنة 2004. وتلك الاتفاقية في غاية الأهمية لأنها نجحت، في نهاية المطاف، في جعل الاتحاد الأوروبي الشريك التجاري الأول لمصر، بنسبة تتجاوز 30% من التبادل الخارجي، ووسعت الاتفاقية مجالات التعاون بين الطرفين. وفي سنة 2007، جاءت أخطر الاتفاقيات تحت عنوان "خطة العمل المشتركة" التي شملت حقوق الإنسان والتعاون الأمني وفي الهجرة. وربما ساعدت جهاتٌ عدةٌ في أوروبا جمعياتٍ حقوقيةً في مصر في أجواء التوتر السائد في البلاد إبان ثورة يناير 2011. وهذه قصةٌ غامضةٌ لم تُكشف تفاصيلها الكاملة بعد.
وبعد ثورة 30 يونيو 2013، عاند الاتحاد الأوروبي الرغبة الشعبية في التخلص من حكم الإخوان المسلمين لفترةٍ من الوقت، حتى تيقن الاتحاد من سلامة الموقف المصري، فعاد التنسيق والتعاون أقوى مما كان من قبل. ودخل التعاون في ملفاتٍ حقيقيةٍ ثبت من خلالها جدية الدولة المصرية في تحقيق أهداف هذا التعاون. وكان على رأس هذه الملفات قضية الهجرة غير الشرعية، ولم تعد شواطئ مصر على المتوسط منصةً لهذه الهجرات المزعجة للجانبين. وحدث تعاونٌ في مجال الطاقة، ودخل الاتحاد الأوروبي مُراقباً في منتدى مصر لغاز شرق المتوسط. وفي مارس عام 2024، توصل الجانبان إلى اتفاق شراكة جديد يقدم دعماً لمصر ـ على شرائح ـ يبلغ 7.4 مليار يورو حتى عام 2027.
ربما يرصد البعض التراجع في الجمارك على السيارات الأوروبية في المنافذ المصرية، والتي وصلت إلى نحو 10%، وكان من المفترض أن تصل إلى "زيرو" جمارك. ولكن الحكومة تفرض ضرائب محلية من قيمةٍ مضافةٍ ورسوم تنمية، تصل بالجمارك إلى نحو 40%. وهو حالٌ أفضل للمستهلك المصري للسيارات الأوروبية، حيث تصل الجمارك للسيارات الآسيوية والأمريكية من 40% إلى 135%. وفي الحقيقة، فإن الحكومة تريد تشجيع تجميع السيارات الأوروبية في مصر، وبالتالي لا تتحصل على جمارك، وهو توجهٌ محمودٌ. ولا أعرف لماذا لا نكون سوقاً جاذباً لتجميع السيارات، لتوطين الصناعة، وللوصول إلى سعر سيارةٍ معقولٍ في مصر.
قمة بروكسل مصريةٌ أوروبيةٌ وليست أورومتوسطيةً، وإن كانت لا تنفصل عنها، لأن الفكرة المتوسطية حاضرةٌ، وينبغي أن تكون كذلك طوال الوقت، لأن المتوسط الذي شهد حروباً وصراعاتٍ كبرى تاريخياً، مؤهلٌ لأن ينتعش فيه التعاون، بين ضفتيه الشمالية والجنوبية، لأن عدم التعاون ستكون نتائجه كارثيةً. وقد دفعت التطوراتُ إلى عقد هذه القمة، بعد أن اقتنع الجانبان بضرورة الوصول بالعلاقات بينهما إلى مستوى جديد، في ظل التطورات الإقليمية الحادة وعلى رأسها الأوضاع في قطاع غزة.
وجاءت قمة بروكسل لتدعم قناعاتٍ مشتركةً في أهمية الاستقرار في منطقة المتوسط، والتناغم في فكرةٍ محوريةٍ للسلام، وتخص الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والتأثير الواضح للسياسة المصرية في قضايا المنطقة، وحزمة الحلول التي بوسع السياسة المصرية تقديمها في شأن الملفات الساخنة. باختصار، رأى الاتحاد الأوروبي عن كثب أهمية الدور المصري، وتمركز القاهرة كلاعبٍ رئيسيٍ لا غنى عنه في هذه الملفات مجتمعةً.