مصرُ حينَ تتكلمُ .. يُنصتُ العالمُ

25-10-2025 | 16:33

كانتْ بروكسلُ في ذلكَ الصباحِ تُشبهُ صفحةً من ضوءٍ أُعيدتْ قراءتُها على مهلٍ، كأنَّها تنتظرُ قدومًا يعرفُ كيفَ يُعيدُ ترتيبَ المشهدِ. وما إنْ خطا الرئيسُ عبدُالفتاحِ السيسيِّ أرضَ القمَّةِ الأوروبيةِ حتى تبدَّلَ الجوُّ، بهيبةٍ لا تصنعُها المراسمُ ولا الكاميراتُ، هي هيبةُ من يحملُ وطنَهُ في ملامحِهِ، ويُعيدُ ترتيبَ المشهدِ العالميِّ بكلمةٍ واحدةٍ .. وصمتٍ مدروسٍ.

ارتفعتْ نظراتُ القادةِ الأوروبيينَ كمنْ يستقبلُ ضيفًا يعرفُ ثقلَ حضورِهِ وصدقَ كلمتِهِ، فكانَ استقبالًا يفوقُ الدبلوماسيةَ بروحٍ من الاحترامِ والإدراكِ أنَّ القادمَ من القاهرةِ ليسَ مجرَّدَ رئيسٍ، بل ممثلٌ لحضارةٍ تعرفُ كيفَ توازنُ بينَ الحكمةِ والقوةِ، بينَ الصبرِ والموقفِ، بينَ السعيِ إلى السلامِ والإصرارِ على الكرامةِ. في تلكَ اللحظةِ التي أرى فيها هذا المشهدَ، بدا وكأنَّ النيلَ نفسَهُ قد مدَّ ضفافَهُ إلى القارةِ العجوزِ، يحملُ على موجِهِ نغمةً مصريةً قديمةً تقولُ: لسنا نبحثُ عن المجدِ، نحنُ نصنعُهُ.

ومنْ خلفِ الكلماتِ الرسميةِ وابتساماتِ البروتوكولاتِ، كانَ هناكَ ما هو أعمقُ: اعترافٌ ضمنيٌّ بأنَّ مصرَ استعادتْ مكانَها في معادلةِ الشرقِ الأوسطِ، وأنَّ صوتَها في القضيةِ الفلسطينيةِ لم يعدْ صوتًا إقليميًّا، بل ضميرٌ إنسانيٌ يذكِّرُ العالمَ بأنَّ السلامَ لا يولدُ من فوهاتِ البنادقِ، بل من قلوبٍ تعرفُ معنى الحياةِ. القضيةُ الفلسطينيةُ كانتْ حاضرةً كنبضٍ في كلِّ كلمةٍ قالَها الرئيسُ السيسيُّ، وكأنَّها المعيارُ الأخلاقيُّ الذي يُعيدُ للعالمِ درسَهُ في العدلِ ويُقاسُ عليهِ صدقُ المواقفِ.

تحدَّثَ قائدُ مصرَ.. عن غزَّةَ بعينِ الأبِ لا بعينِ السياسيِّ، وعن فلسطينَ بروحِ الأمةِ لا بروتوكولِ الخطاباتِ. قالَ إنَّ السلامَ لا يُصنعُ على أنقاضِ المُدنِ، وإنَّ الأمنَ الحقيقيَّ هو أنْ يعيشَ الإنسانُ بلا خوفٍ، لا أنْ تُحصى عليهِ الجدرانُ والأسلاكُ.

لقد غيَّرَ هذا الرجلُ مفاهيمَ العالمِ عن دورِ مصرَ في القضيةِ الفلسطينيةِ، فأعادَها من هامشِ الحدثِ إلى مركزِ القرارِ. لم تعدِ القاهرةُ مجرَّدَ وسيطٍ، بل باتتْ عقلَ العروبةِ وحارسَ الوجدانِ الإنسانيِّ، تُدافعُ عن حقٍّ لا يُقاسُ بالمفاوضاتِ بل بالتاريخِ. ومنْ فوقِ منصةِ القمَّةِ الأوروبيةِ، بدا واضحًا أنَّ مصرَ تتحدثُ بلسانٍ لا يعرفُ المزايدةَ ولا المراوغةَ، بل لغةَ الموقفِ الصادقِ الذي لا يُشترى ولا يُستعارُ.

هكذا، خرجتْ أوروبا من القمَّةِ وهي أكثرُ وعيًا بأنَّ مصرَ لا تتحدثُ نيابةً عنْ أحدٍ، بل عنْ ضميرٍ يحلمُ بالسلامِ العادلِ، وعنْ حضارةٍ تعرفُ أنَّ الكرامةَ ليستْ شعارًا بل مبدأً.

تقدَّمَ القادةُ الأوربيونَ نحو الرئيسِ بخطواتٍ تجمعُ بينَ الرسميةِ والاحترامِ، وكأنَّهم يُقرُّونَ بأنَّ بينَ أيديهم رجلًا أعادَ للعالمِ صوتَهُ المُتزنَ وسطَ فوضى الأزماتِ. لم يكنِ المشهدُ مُجاملةً سياسيةً باردةً، بل ترجمةً صادقةً لإدراكٍ أوروبيٍّ متنامٍ بأنَّ مصرَ لم تعدْ رقمًا في المعادلةِ، بل رمَّانةُ الميزانِ في صراعٍ يُهدِّدُ أمنَ العالمِ واستقرارَهُ. لقد أدركوا أنَّ القاهرةَ التي تصمتُ حينَ يعلو الضجيجُ، إنما تصمتُ لتُصغي ثمَّ تتكلمُ حينَ يكونُ للكلمةِ معنى ومسئوليةٌ.

ولم تقتصرْ ردودُ الفعلِ على القادةِ فقطْ، بل تناولتْ وسائلُ الإعلامِ الأوروبيةُ الزيارةَ بالتحليلِ المُتأنِّي، مُشيدةً بدورِ مصرَ المحوريِّ في دعمِ السلامِ الإقليميِّ، وإعادةِ الثقةِ في المواقفِ الدبلوماسيةِ العربيةِ.

لم تكنْ زيارةُ الرئيسِ عبدِالفتاحِ السيسيِّ إلى القمَّةِ الأوروبيةِ مجرَّدَ حضورٍ رمزيٍّ أو لياقةٍ سياسيةٍ، بل تحوَّلتْ إلى ورشةِ إنجازٍ حقيقيةٍ أعادتْ صياغةَ الشراكةِ بينَ القاهرةِ وبروكسلَ على أسسٍ من الثقةِ والاحترامِ المتبادلِ. خرجتِ القمَّةُ بتوقيعِ اتفاقياتٍ تاريخيةٍ ومنحٍ لتعزيزِ الاقتصادِ المصريِّ ودعمِ برنامجِ الإصلاحِ الوطنيِّ، وخلقِ فرصِ عملٍ جديدةٍ للشبابِ المصريِّ، وتطويرِ التعليمِ والصحةِ والمياهِ وتمكينِ المرأةِ والشبابِ، ما يعكسُ اهتمامَ مصرَ بتحسينِ حياةِ المواطنِ.

أيضًا انضمامُ مصرَ رسميًّا إلى برنامجِ الأبحاثِ الأوروبيِّ؛ لفتحِ أبوابِ المشاركةِ أمامَ العلماءِ والمُبدعينَ المصريينَ، ودعمِ الابتكارِ المحليِّ. كانتْ تلكَ الاتفاقاتُ ثمرةَ حضورٍ ذكيٍّ يحملُ رؤيةً مصريةً واضحةً: أنَّ الشراكةَ الحقيقيةَ لا تُبنى على المصلحةِ وحدَها، بل على الإيمانِ المشتركِ بأنَّ التنميةَ والسلامَ وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ، وأنَّنا شركاءُ في الأمنِ، وأصدقاءُ في التنميةِ، وحماةٌ للسلامِ حينَ تُغلقُ الأبوابُ. إنَّها مصرُ التي لا تحضرُ فقطْ لتأخذَ .. وإنما لِتُحيي.. في زمنٍ تتكاثرُ فيهِ الأصواتُ وتغيبُ فيهِ البصائرُ، تبقى هي.. الصوتُ الذي لا يعلو عليهِ صدى، لأنَّها لا تتكلمُ لتُسمعَ، بل لِتوقظَ في العالمِ ضميرًا.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة