تمر القضيةُ الفلسطينيةُ اليوم بمنعطفٍ حاسمٍ قد يُشكِّل نقطة تحوُّل في مسارِها الطويلِ. وفي قلبِ هذه اللحظةِ التاريخيةِ، يبرز الدورُ المصريُّ كعاملٍ حاسمٍ ومحوريٍّ في صناعةِ هذه اللحظةِ وإدارتِها بحكمةٍ ورويَّةٍ. فمنذُ توقيعِ اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النارِ في شرم الشيخ خلال شهر أكتوبرَ الجاري، دخلت القضيةُ الفلسطينيةُ مرحلةً جديدةً من التعقيدِ والفُرصِ معًا، حيثُ تتداخلُ فيها المصالحُ الدوليةُ والتوازناتُ الإقليميةُ والرهاناتُ المحليةُ في مشهدٍ متشابكٍ يصعبُ فكُّ خيوطِهِ إلَّا بيدٍ خبيرةٍ. وفي هذا المشهدِ المعقَّدِ، تظهرُ مصرُ كقائدٍ إقليميٍّ قادرٍ على قيادةِ هذه العمليَّةِ برؤيةٍ إستراتيجيةٍ واضحةٍ وحسٍّ دبلوماسيٍّ متوازنٍ.
لا يمكن فهم الدور المصري في التعامل مع القضية الفلسطينية بمعزل عن الموقع الجيوسياسي لمصرَ وثقلِها التاريخي في المعادلةِ الإقليميةِ. فمصرُ، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي، تتعامل مع الملفِّ الفلسطينيِّ من منظورٍ إستراتيجيٍّ يتجاوز التكتيك اليومي والمواقفَ الآنيةَ، ليصل إلى رؤيةٍ شاملةٍ تضع السلامَ المستدامَ نصبَ عينيها. هذه الرؤيةُ تستندُ إلى مبادئَ واضحةٍ: أولًا، أنَّ الاستقرار الإقليمي لا يمكن تحقيقُهُ دون حلٍّ عادلٍ للقضية الفلسطينية؛ ثانيًا، أنَّ المصلحة الوطنية المصرية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيقِ السلامِ والاستقرارِ في غزة؛ وثالثًا، أنَّ الشرعية الفلسطينية يجب أن تكون الأساسَ الذي تُبنى عليهِ أيُّ تسويةٍ.
الأولويات المصرية
حددت الرؤية المصرية أولويَّاتِها بوضوحٍ لا لبسَ فيهِ، حيثُ تضعُ الانسحابَ الإسرائيليَّ الكاملَ من غزة على رأسِ قائمةِ هذه الأولويَّاتِ، تليهِ عمليَّة إعادة الإعمار الشاملة، وتمكين السلطة الفلسطينية من إدارة القطاع بشكلٍ كاملٍ.
شكلت اجتماعات القاهرة للفصائل الفلسطينية محورًا أساسيًّا في الجهودِ المصريةِ، حيثُ توصَّلتِ الفصائلُ الفلسطينيةُ إلى اتفاقٍ مبدئيٍّ بشأنِ إدارة قطاع غزة وتثبيت الهدنة. وقد أسفرت هذه الاجتماعاتُ عن اتفاقٍ على تسليم إدارة قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة من الكفاءات المحلية "التكنوقراطِ"، لتسيير شئون الحياة والخدمات الأساسية بالتعاون مع الأشقَّاءِ العربِ والمؤسسات الدولية. كما اتفق المجتمعونَ على دعم وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كممثِّلٍ شرعيٍّ ووحيدٍ للشعب الفلسطيني، ممَّا يمثِّل خطوة مهمَّة نحو لمِّ الشمل الفلسطيني وإنهاء سنوات الانقسام.
يظهر البعد الدولي في الدبلوماسية المصرية جليًّا من خلال التحرك على جبهاتٍ متعدِّدةٍ، حيثُ شملت الجهودُ المصريةُ: التنسيقُ مع الاتحاد الأوروبي: حيثُ حظيت مصرُ باستقبالٍ حافلٍ خلال زيارة الرئيس السيسي للاتحاد الأوروبي، ممَّا يعكس الاعترافَ الدولي بالدور المصري كشريكٍ أساسيٍّ في صناعةِ السلامِ. ورحَّبت دولٌ أوروبية كثيرة بالدور المصري، حيثُ دعمَتْ أربعُ دولٍ أوروبية كبيرة هي ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا الخطةَ العربيةَ لإعادةِ إعمارِ غزة.
ثمَّ الدعمُ الأوروبيُّ للجهودِ المصريةِ: وقد عبَّرت مجموعةُ "ميد 9" الأوروبيةُ، التي تضمُّ تسعَ دولٍ من الاتحاد الأوروبي مُطلَّةٍ على البحر المتوسط، عن تأييدِها للجهودِ المصريةِ، ومطالبتِها بفتحِ المعابرِ أمام المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة وضمان الالتزام باتفاقِ وقفِ إطلاقِ النارِ.
وفي هذا السياقِ، تمثِّلُ العلاقةُ مع واشنطن ركيزةً أساسيَّةً في الاستراتيجية المصرية، حيثُ تتعاملُ القاهرةُ مع الإدارة الأمريكية كشريكٍ في عمليَّة السلامِ، مُستفيدةً من الموقف الأمريكي المساند للجهودِ المصريةِ. ظهر هذا جليًّا في الضغطِ الأمريكيِّ على إسرائيلَ: حيثُ مارست إدارة الرئيس ترامب ضغوطًا مُكثَّفةً على الحكومة الإسرائيلية للالتزام باتفاقِ وقفِ إطلاقِ النارِ، وأعرب وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن تفاؤلِهِ بإمكانية تجاوز التحديات التي تواجه تنفيذ الاتفاق. وكمؤشِّرٍ على الدعم الأمريكي للرؤية المصرية، أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية عن تعيين الدبلوماسي المخضرم ستيفن فاجن كمسئولٍ مدنيٍّ عن مركز التنسيق المدني العسكري في جنوب إسرائيل، المعني بمتابعةِ ودعمِ وقفِ إطلاقِ النارِ في غزة.
من ناحيةٍ أخرى، يتَّسمُ الموقف المصري من إسرائيل بالواقعية والوضوح، حيثُ تتعاملُ القاهرةُ مع تل أبيبَ من منظورِ المصلحة الوطنية والاستقرار الإقليمي. وقد ظهر هذا في اللقاءات المباشرة حيثُ اجتمعَ رئيسُ المخابرات المصرية اللواءُ حسنُ رشادَ مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لبحث تطوُّرات اتفاق غزة، في إطارِ الحوارِ المباشرِ الذي يُفضي إلى نتائجَ ملموسةٍ. بالإضافة إلى أنَّ القاهرةَ تُدركُ أنَّ التعامل مع إسرائيل يتطلَّب مزيجًا من الحزم والمرونة، فمن ناحية ترفض مصرُ أيَّ محاولة لإعاقة الاتفاق من خلال التركيز على قضايا ثانوية مثل سلاح حماس، ومن ناحية أخرى تحافظ على قنوات اتصال مفتوحة مع الجانب الإسرائيلي لضمان تنفيذ الاتفاق.
يُشكِّلُ دخولُ المساعدات الإنسانية إلى غزة محورًا أساسيًّا في الجهودِ المصريةِ، حيثُ عملت القاهرةُ على فتحِ المعابرِ، وفي مقدِّمتِها معبر رفح، لضمان تدفُّق المساعدات الطبية والغذائية إلى القطاع المحاصر، تنفيذًا لبنود الاتفاق التي تضمنت رفع الحصار وفتح جميع المعابر، فضلًا على تعاون مصرَ مع المنظمات الدولية والجمعيات الخيرية لضمان وصول المساعدات الإنسانية لمُستحقِّيها، في إطارِ الجهودِ المشتركةِ لتخفيفِ المعاناةِ عن الشعب الفلسطيني.
تمهيد الطريق للحكم الفلسطيني
يمثِّلُ الاتفاقُ على تشكيل لجنة تكنوقراط فلسطينية لإدارة غزة إنجازًا مهمًّا في المسارِ السياسيِّ، حيثُ تمَّ الاتفاقُ على تسليم إدارة قطاع غزة إلى لجنة فلسطينية مؤقتة تضم مستقلين من الكفاءات المحلية "التكنوقراطِ"، لتسيير شئون الحياة والخدمات الأساسية. وكذلك ضمان الدعم الدولي حيثُ يتم التعاون مع الدول العربية والمؤسسات الدولية لضمان نجاح هذه اللجنة في مهامِها، كما سيتم تأسيس لجنة دولية تُشرِفُ على تمويل وتنفيذ إعادة الإعمار.
التحديات والمخاطر
مع ذلك تواجه الرؤية المصرية تحدياتٍ جسيمةً، يأتي في مقدِّمتِها الخلاف الإستراتيجي مع الحكومة الإسرائيلية، حيثُ يُصرُّ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على رؤيةٍ تختلفُ جذريًّا عن الرؤية المصرية. فبينما تُريد مصرُ التركيزَ على القضايا الاستراتيجية الكبرى مثل الانسحاب الإسرائيلي وإعادة الإعمار، يُركِّزُ الجانب الإسرائيلي على قضايا تكتيكيةٍ مثل سلاح حماس، في محاولةٍ لإعاقةِ التنفيذ الكامل للاتفاق.
يُضافُ إلى ذلك تعقيد المشهد الفلسطيني نفسِهِ، حيثُ لا تزال هناك بعض التحفُّظات من جانب حركتيْ فتحَ وحماسَ على بعض الأسماء المطروحة للجنة التكنوقراط، رغم التوافق المبدئي على نحو 15 شخصيَّةً. كما أنَّ مسألة السلاح لا تزال تُشكِّل نقطة خلاف بين الفصائل المختلفة، رغم محاولة مصرَ وضعِها في إطارِها الصحيح كقضيةٍ فرعيَّةٍ لا يجبُ أن تُعيقَ تحقيقَ السلامِ.
تمثِّلُ اللحظة الراهنة فرصةً تاريخيةً قد لا تتكرَّر للقضية الفلسطينية، حيثُ تتوافر إرادة دولية ودعم إقليمي وتوجُّه فلسطيني نحو الوحدة، وفي قلب هذه المعادلة تقف مصرُ كقائدٍ إقليميٍّ ووسيطٍ نزيهٍ وشريكٍ دوليٍّ موثوقٍ.
النجاحُ المصريُّ في قيادةِ هذه المرحلةِ الدقيقةِ يعتمدُ على قدرة القاهرة على مواصلة الضغط على جميع الأطراف، والحفاظ على الزخم الدولي الداعم، وتعزيز الوحدة الفلسطينية، وإدارة الخلافات مع إسرائيل ببراعة دبلوماسية. وإذا كان طريقُ السلامِ محفوفًا بالمخاطر والعقبات، فإنَّ الدورَ المصريَّ الذي يجمعُ بين الحكمة والواقعية والإصرار، هو الضمانةُ الأكيدةُ لاجتياز هذا الطريق وصولًا إلى سلامٍ عادلٍ وشاملٍ ودائمٍ، يحفظُ حقوقَ الشعب الفلسطيني في الحرية والكرامة والدولة المستقلة، ويُحقِّقُ الأمنَ والاستقرارَ لكل شعوب المنطقة.
فمصرُ، بقدراتِها وعلاقاتِها وتاريخِها، هي الأقدرُ على قيادةِ هذه الرحلةِ الصعبةِ، وهي التي ستحصدُ ثمارَ نجاحِها ليس فقط في تعزيزِ مكانتِها الإقليمية والدولية، بل في تحقيق الاستقرار والازدهار للمنطقة بأسرِها.