هل نحنُ بحاجةٍ إلى ثورةٍ تعليميَّةٍ؟ (٥من٥)

25-10-2025 | 14:40

سنغافورةُ نموذجًا .. من الفقرِ إلى الرؤيةِ

حين انفصلت سنغافورةُ عن ماليزيا عام 1965، لم يكن لديها سوى ميناء مزدحم وأحلام كبيرة. كانت جزيرة صغيرة فقيرة بالموارد الطبيعيَّة، تعاني بطالة مرتفعة وأميَّة واسعة، وتعتمد على صناعات بدائيَّة ومساعدات خارجيَّة. الأحياء مكتظَّة، والسكن عشوائيَّات غير آمنة، والاقتصاد هشٌّ، والمستقبل غامض. لكنَّها كانت محظوظة بوجود زعيم استثنائي أدركَ أنَّ الخلاص لن يكون بالموارد بل بالعقول، وأنَّ التعليم هو البوَّابة الوحيدة للنُّهوضِ.

لي كوان يو: التعليمُ قبل كل شيء

قاد الزعيم المؤسِّس لي كوان يو تحوُّلًا جذريًّا حين أدركَ أنَّ ثروة بلادِهِ الحقيقيَّة ليست في الأرض أو النفط، بل في عقول أبنائها. فبعد الاستقلال، جعل التعليمَ أولويَّة وطنيَّة مطلقة، وقال عبارتَهُ الشهيرةَ: "اتركُوا لي التعليمَ، وسأصنعُ لكم دولةً". بنى رؤية تقوم على نظام تعليمي منضبط يربط بين المدرسة وسوق العمل، ويركِّز على الكفاءة والمهارة أكثر من الشهادات. جمع حولَهُ نُخبةً من التكنوقراط، لكنَّهُ أبقى ملفَّ التعليمِ بيدِهِ، مُعتبرًا إيَّاهُ ليس مجرَّد ملفٍّ وزاريٍّ، بل الأساسَ الذي تُبنى عليهِ الدولة الحديثة.

المعلِّمُ أوَّلًا

بدأتِ الثورة التعليميَّة من المعلِّمِ، الذي رآهُ لي كوان يو حجر الأساس لبناء الأمَّة. أدركَ أنَّ أيَّ إصلاح في المناهج أو البنية التحتيَّة لن ينجح دون معلِّمٍ متميِّز ومؤمن برسالتِهِ. فأُنشئَ المعهد الوطني للتربية لتأهيل المعلِّمينَ بأعلى مستويات الكفاءة والانضباط، وأصبح اختيارُهم من بين أعلى خرِّيجي الثانويَّة العامَّة. يخضعُ المعلِّمونَ لتدريب صارم مدفوع الأجر، يحصلونَ خلالَهُ على رواتبَ مُجزيةٍ لضمان استقرارِهم وتركيزِهم المهنيِّ.

كما رُبطتِ الترقياتُ بالأداء والتطوير المستمرِّ لا بالأقدميَّةِ، وأُنشئت مسارات متعدِّدة للمعلِّمينَ المتميِّزينَ تشملُ التدرُّجَ الأكاديميَّ والإداريَّ والاستشاريَّ. بهذهِ الرؤيةِ، تحوَّلتْ مهنةُ التعليمِ إلى مهنةٍ نخبويَّةٍ تُمنحُ لمنْ يستحقُّ، فأصبحَ المعلِّمُ أوَّلَ نواةٍ في مشروعِ الدولةِ لبناءِ الإنسانِ قبلَ البُنيانِ.

من تعليمٍ للنجاةِ إلى تعليمٍ للريادةِ

لم يتوقفِ الإصلاحُ عند إعداد المعلِّمينَ، بل امتدَّ إلى هيكلِ التعليمِ ومناهجِهِ على مراحلَ مدروسةٍ ربطتِ التعليمَ بالتنمية الاقتصاديَّة خطوةً بخطوةٍ.

في الستينيَّاتِ والسبعينيَّاتِ، ركَّزتِ الدولةُ على محو الأميَّة والتدريب الصناعي لتلبية احتياجات سوق العمل وجذب الاستثمارات الأجنبيَّة التي بدأت تتوافدُ للجزيرةِ ممَّا ساهمَ في خفضِ معدَّلاتِ البطالةِ.

في الثمانينيَّاتِ، انتقلَتْ إلى مرحلة التعليمِ الموجَّهِ نحو الكفاءة والإنتاجيَّةِ، حيثُ شُجِّعَ التفكير المنطقي والانضباط المهني.

في التسعينيَّاتِ، أطلقتْ شعارَ «مدرسةٌ تفكِّرُ.. أمَّةٌ تتعلَّمُ»، لتنتقلَ من التعليمِ التلقينيِّ إلى التعليمِ الإبداعيِّ، فدخلَ الحاسوبُ الصفوفَ وتوسَّعَ تعليمُ اللغاتِ والعلومِ.

وفي العقدينِ الأخيرينِ، تطوَّرتِ التجربةُ لتصلَ إلى ما يشبهُ "المرحلةَ الذهبيَّةَ" حيثُ أصبحتْ سنغافورةُ مركزًا عالميًّا للتعليمِ القائمِ على الابتكار والبحث والتكنولوجيا، مع دمجِ التفكير النقدي وريادة الأعمال في كل المراحل.

بهذهِ الخطواتِ المتعاقبةِ، انتقلتِ البلادُ من تعليمٍ للنجاةِ إلى تعليمٍ للريادةِ، ومن تقليدِ النماذجِ الغربيَّةِ إلى تصديرِ نموذجِها الخاصِّ للعالمِ، يُدرَّسُ اليومَ في جامعاتِهِ كقصَّةِ نجاحٍ فريدةٍ.

ثمارُ التعليمِ: رفاهيَّةُ الإنسانِ ونُهوضُ الاقتصادِ

تُصنَّفُ سنغافورةُ اليومَ ضمنَ أعلى ثلاثِ دولٍ في العالمِ في جودةِ التعليمِ وفقَ المعاييرِ الدوليَّةِ، ويتصدَّرُ طلَّابُها مجالاتِ الرياضيات والعلوم والهندسة والتكنولوجيا بانتظامٍ. هذا التفوقُ هو نتيجةُ رؤيةٍ تربطُ التعليمَ بالنموِّ الاقتصاديِّ والابتكارِ الوطنيِّ. ففي غضونِ نصف قرنٍ فقط، تحوَّلتْ سنغافورةُ من دولةٍ فقيرةٍ بلا مواردَ إلى قوَّةٍ اقتصاديَّةٍ عالميَّةٍ حيثُ أضحى دخلُ الفردِ هو الأعلى عالميًّا، وبنظامِ خدماتٍ عامَّةٍ يُضربُ بهِ المثلُ في الكفاءة والنزاهة. انعكستْ هذهِ النهضةُ التعليميَّةُ على نوعيَّة الحياة؛ في مؤشِّرِ السعادةِ تحتلُّ سنغافورةُ المرتبةَ الثالثةَ عالميًّا، البطالةُ بها أقلُّ من ٢٪؜، تراجعتِ الفوارقُ الاجتماعيَّةُ، وأصبحَ التعليمُ المتطوِّرُ بوَّابةً نحو وظائفَ نوعيَّةٍ في التكنولوجيا والبحث والإدارة.

الخلاصةُ

لقد أثبتتْ سنغافورةُ أنَّ الاستثمارَ في الإنسانِ هو أعظمُ استثمارٍ يمكنُ أن تنهضَ بهِ الأُممُ. وأنَّ التعليمَ، حينَ يُدارُ برؤيةٍ وطنيَّةٍ شاملةٍ، لا يخرِّجُ طَلَبَةً فحسبُ، بل يصنعُ أجيالًا قادرةً على بناءِ دولةٍ من لا شيءَ.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
جائزة نوبل في الكيمياء 2025: إسفنجة تصنع الحياة!

منذ أن أعلنت لجنة نوبل هذا العام فوز العالم الفلسطيني الأمريكي عمر ياغي -إلى جانب عالمين آخرين- بجائزة الكيمياء عن اكتشافهم الهياكل المعدنية العضوية (MOFs)،

حول جوهر النزاع

أعجبني تصريح للدكتور نبيل فهمي، وزير الخارجية الأسبق، حين لخّص مأساة غزة في عبارتين: الخلاف ليس حول التفاصيل، وإنما حول جوهر النزاع .