د. إبراهيم منشاوي: تشابه محدود بين الضمانات التي تطالب بها أوكرانيا وضمانات مينسك 2014
موضوعات مقترحة
د. أيمن البراسنة: التحالف الغربي لا يريد تقديم ضمانات قوية إلى درجة تجعل روسيا ترفضها بقوة
د.طارق الزبيدي: استمرار الدعم الغربي للجيش الأوكراني وتعزيز القدرات لردع أي اعتداءات مستقبلية
د. هيثم عمران: موسكو تطالب بترتيبات ملزمة قانونيا تضمن عدم نشر بنية عسكرية أو أسلحة إستراتيجية
منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية عاد ملف الضمانات الأمنية ليحتل صدارة النقاش الدولي، خاصة بعد القمة التي احتضنها البيت الأبيض، وجمعت الرئيس دونالد ترامب بنظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بحضور لافت لعدد من القادة الأوروبيين والتي جاءت فى لحظة سياسية مشحونة جاءت بعد لقاء أمريكي–روسي في ألاسكا، وأصبح طرف يسعى لانتزاع صيغ مختلفة تضمن مستقبله السياسي والعسكري، روسيا تتحدث عن حياد أوكرانيا ووقف تمدد الناتو شرقاً، بينما تتمسك كييف بضمانات دفاعية ملموسة تتجاوز الوعود التي حصلت عليها في مذكرة بودابست عام 1994، والتي أثبتت التجربة أنها لم توفر حماية حقيقية لسيادتها ووحدة أراضيها.
في الوقت ذاته، يثار تساؤل حول إمكانية تكرار سيناريو اتفاقيات مينسك التي وقعت عام 2014 بهدف تهدئة النزاع في دونباس لكنها بقيت حبراً على ورق، أو البحث عن بدائل جديدة تستلهم مضمون المادة الخامسة من ميثاق الناتو، ولكن دون منح أوكرانيا عضوية كاملة في الحلف، وهو ما يشكل عقدة أساسية في المفاوضات الدولية.
وسط هذه التناقضات، يظل السؤال قائماً حول الشكل الواقعي للضمانات الأمنية الذي يمكن أن يقبله الطرفان. هل يستطيع الغرب أن يقدم لكييف التزامات عملية تشبه مظلة الناتو من دون أن يجرّ نفسه إلى مواجهة مباشرة مع موسكو؟ وأي ضمانات يمكن أن تقنع روسيا بالتراجع عن حربها، أو على الأقل تثبيتها عند خطوط جغرافية معينة؟
ويفتح هذا التحقيق الباب أمام مجموعة من التساؤلات الكبرى: ما طبيعة الضمانات التي تطالب بها روسيا وما الذي تخشاه تحديداً؟ وكيف تختلف مطالب أوكرانيا اليوم عن تلك التي نصت عليها مذكرة بودابست التي لم تحمها من ضم القرم؟ وهل تصلح اتفاقيات مينسك كنموذج يمكن البناء عليه للسلام، أم أنها تجربة فاشلة يصعب تكرارها؟ والأهم من ذلك، كيف يمكن ترجمة مضمون المادة الخامسة من ميثاق الناتو إلى صيغة خاصة تحمي أوكرانيا دون أن تكون عضواً رسمياً في الحلف؟ وأي سيناريو يظل الأقرب للتنفيذ: معاهدات دفاع ثنائية، وجود عسكري غربي مباشر، أم صيغة "ناتو مصغّر" يقتصر على أوكرانيا وبعض جيرانها؟
الضمانات القانونية
في البداية، قال الدكتور إبراهيم سيف منشاوي، أستاذ القانون الدولي والتنظيم الدولي المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة، إن روسيا تسعى للحصول على مجموعة من الضمانات القانونية والأمنية لتسوية النزاع بينها وبين أوكرانيا تسوية سلمية، وأوضح أن من بين هذه الضمانات ضرورة التزام أوكرانيا بوضع الحياد الدائم، وتخليها النهائي عن الانضمام إلى منظمة حلف شمال الأطلسي أو أي تحالفات عسكرية غربية ذات طبيعة عدائية تجاه موسكو.
وأضاف أن موسكو تسعى لأن تكون طرفًا مباشرًا في آليات الضمانات الأمنية المستقبلية مع منحها حق الاعتراض على القرارات الجوهرية، فضلًا عن إضفاء الشرعية الدولية على ضمّها للأراضي التي سيطرت عليها منذ عام 2014 وما بعده، ورفع كافة التدابير القسرية الانفرادية "العقوبات" المفروضة عليها، وأشار إلى أن روسيا تطمح أيضًا إلى فرض قيود تعاقدية على القدرات الدفاعية لأوكرانيا، سواء من حيث حجم القوات أو نوعية التسليح، بما يحول دون إعادة بناء قوة عسكرية قد تُعتبر تهديدًا لأمنها القومي.
وتابع أن أوكرانيا من ناحيتها تتمسك بضرورة أن تحصل على ضمانات أساسية في صورة التزامات دولية ذات طبيعة تنفيذية تشبه في مضمونها نظام "الدفاع الجماعي" الوارد في المادة الخامسة من معاهدة واشنطن "الناتو"، بما يكفل تدخل الدول الضامنة سياسيًا وعسكريًا في حال تعرّضها لعدوان جديد من روسيا، وأكد أنها تتمسك أيضًا بسيادتها ووحدة أراضيها داخل حدودها المعترف بها دوليًا وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، وترفض أي ترتيبات تؤدي إلى التنازل عن أجزاء من إقليمها.
وأشار منشاوي إلى أن أوكرانيا تطالب كذلك بضمان الإفراج عن الأسرى والمحتجزين وإعادة الأطفال المرحّلين قسرًا، وبوضع آليات قضائية دولية لمساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي الإنساني، إلى جانب إبرام معاهدة سلام متعددة الأطراف ذات قوة قانونية ملزمة تضمن استدامة هذه الالتزامات وتنفيذها، وأضاف أن كييف تعتبر أنّ مذكرة بودابست للضمانات الأمنية الموقّعة عام 1994 لم تُفضِ إلى توفير حماية حقيقية لسيادتها ووحدة أراضيها، إذ اقتصرت على التزامات عامة ذات طابع سياسي وأخلاقي دون آليات تنفيذية محددة أو إجراءات ردع عملية في حال انتهاكها.
وأوضح أن مذكرة بودابست للضمانات الأمنية هي اتفاق سياسي–دبلوماسي، وُقِّع في العاصمة المجرية بودابست في 5 ديسمبر 1994 بين أوكرانيا وكل من الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية، والمملكة المتحدة، وذلك في سياق انضمام أوكرانيا إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية، وقال إنه بموجب هذه المذكرة وافقت أوكرانيا على التخلي الكامل عن أسلحتها النووية وتسليمها إلى روسيا للتفكيك، مقابل التزامات تعهّد بها الأطراف الموقّعة، أهمها احترام استقلال أوكرانيا وسيادتها ووحدة أراضيها ضمن حدودها القائمة حينذاك، والامتناع عن استخدام القوة أو التهديد باستخدامها ضد أوكرانيا، والامتناع عن استخدام الضغوط الاقتصادية بهدف التأثير على سياستها السيادية، والالتزام بعدم استخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا بوصفها دولة غير نووية في إطار معاهدة عدم الانتشار، إضافة إلى إحالة المسائل المتعلقة بهذه الضمانات إلى مجلس الأمن الدولي في حال نشوء تهديدات.
وأكد أن هذه الالتزامات لم تُنفذ لكونها قائمة على "تأكيدات شفوية"، وهو ما جعل أوكرانيا أكثر تمسكًا بضرورة الحصول على ضمانات ملموسة وفعّالة، تتسم بالطابع القانوني الملزم، مع تحديد آليات للتنفيذ والمتابعة، بما في ذلك التدخل الدبلوماسي والعسكري والاقتصادي الفوري من جانب الدول الضامنة في حال تعرضها لأي عدوان جديد أو حتى انتهاك لسيادتها.
وأضاف منشاوي أن هناك تشابهًا محدودًا بين الضمانات التي تطالب بها أوكرانيا اليوم والضمانات التي نص عليها اتفاق "بروتوكول مينسك 2014"، فكلاهما ينطلق من ضرورة الحاجة إلى وقف إطلاق النار وحماية المدنيين، مع إدراج عنصر الإشراف الدولي لمراقبة التنفيذ، وأوضح أن هذه المهمة قد أُسندت وفق اتفاق مينسك إلى منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، في حين أن أوكرانيا الآن تطالب بضمانات دولية أكثر صرامة تشرف عليها قوى دولية كبرى، إضافة إلى الإفراج عن الأسرى والمختطفين وهو عنصر موجود في كلا السياقين وإن كان بصيغ مختلفة.
واستطرد قائلاً: إن الفارق الجوهري يكمن في طبيعة ومدى الإلزام؛ فـاتفاق مينسك اشتمل على التزامات سياسية مؤقتة دون أن يكون لها طابع ملزم أو آليات إنفاذ حقيقية، وركز على ترتيبات داخلية مثل منح وضع خاص لإقليم دونباس، في حين أن المطالب الأوكرانية الراهنة ترتكز على وضع منظومة ضمانات مكتوبة وملزمة شبيهة بالمادة الخامسة من معاهدة الناتو، تتضمن تدخلاً عسكريًا مباشرًا من الحلفاء عند أي عدوان، وترفض أي تسويات إقليمية تمس سيادتها.
وتساءل منشاوي قائلاً: "ما هو السبيل المناسب لكي تحصل أوكرانيا على ضمانات شبيهة بالمادة الخامسة من اتفاقية حلف شمال الأطلسي يكفل الدفاع عنها ضد أي عدوان على الرغم من أنها ليست طرفًا في الاتفاقية؟".
وأوضح أن المادة الخامسة من معاهدة حلف شمال الأطلسي لعام 1949 تُعد حجر الزاوية في منظومة الناتو الأمنية، وتنص على أن أي هجوم مسلّح يقع ضدّ أحد أطراف المعاهدة في أوروبا أو أمريكا الشمالية يُعتبر هجومًا ضد جميع الأطراف، وبناءً عليه يتعهد كل طرف باتخاذ ما يلزم من إجراءات، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، للمساعدة في الدفاع عن الطرف أو الأطراف المعتدى عليها، وذلك فورًا وبصورة فردية أو جماعية، وفقًا لحق الدفاع الشرعي الفردي أو الجماعي المقرر في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة.
وأكد أن السبيل الأكثر واقعية لتمكين أوكرانيا من الحصول على ضمانات أمنية شبيهة بالمادة الخامسة من معاهدة الناتو، على الرغم من أنها ليست طرفًا فيها، يتمثل في إبرام معاهدة دفاعية خاصة ثنائية أو متعددة الأطراف مع مجموعة من الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا أو دول مجموعة السبع. وأوضح أن هذه المعاهدة يجب أن تنص صراحة على أنّ أي اعتداء عسكري على أوكرانيا يُعد اعتداءً على الطرف الآخر أو الأطراف كافة، ويلتزم هؤلاء بالرد الفوري سياسيًا وعسكريًا وفقًا للمادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة المتعلق بحق الدفاع الشرعي الفردي والجماعي.
وأضاف أن هذه المعاهدة يجب أن تُدعم بآليات تنفيذ عملية تشمل نشر قوات أو قواعد عسكرية، وتوفير أنظمة دفاع جوي وصاروخي متقدمة، وتحديد بروتوكولات واضحة للتدخل السريع. وختم مؤكداً أن بهذه الطريقة تتحقق عمليًا وظيفة الردع الجماعي التي تميز المادة الخامسة للناتو، من خلال مزيج من الالتزامات القانونية المكتوبة، والضمانات العسكرية الميدانية، والدعم السياسي–الدبلوماسي المتعدد الأطراف.
المعضلة الرئيسية
من جانبه، قال الدكتور أيمن البراسنة، أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأردنية، إن بين رؤية الرئيس ترامب بخصوص إنهاء الحرب عبر ضمانات أمريكية–أوروبية تتعهد بحماية كييف بموجب أي اتفاق لإنهاء حرب روسيا في أوكرانيا، وبين تشدد روسيا التي ترفض أي ضمانات لأوكرانيا لا تراعي مصالحها الحيوية، هناك موقف أوكرانيا التي تتمسك بضمانات أمنية تهدف إلى ردع أي عدوان روسي محتمل في المستقبل، وأوضح أن أوكرانيا تصر على رغبتها في الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي لحماية أمنها القومي، وهو الأمر الذي يرفضه ترامب وبعض الدول في أوروبا، باعتبار أن انضمام أوكرانيا قد يزيد بشكل كبير من فرص جر التحالف إلى مواجهة مباشرة مع روسيا.
وأضاف أن ترامب يرفض كذلك نشر قوات أمريكية على الأراضي الأوكرانية، ما يزيد من قلق كييف ويجعلها تصر على الحصول على ضمانات تمنع موسكو من العودة وقضم أجزاء من أراضيها مجدداً، وأشار إلى أن الأوروبيين والأمريكيين ناقشوا عدة خيارات لمساعدة أوكرانيا على حماية أمنها، منها تقديم ضمانات مستوحاة من المادة الخامسة من اتفاق الدفاع المشترك لحلف شمال الأطلسي، بحيث يتم نشر قوة عسكرية في أوكرانيا وتوفير دعم على صعيد التدريب الجوي أو البحري.
وتابع البراسنة قائلاً: إن روسيا ترفض مثل هذا الاحتمال، لأنها تعتبر أن توسّع حلف الناتو ليصل إلى حدودها أحد "الأسباب الأساسية" التي أدت إلى اندلاع الحرب، كما أن الولايات المتحدة لا يمكنها منح مثل هذه الضمانات، لأنها ترفض انضمام أوكرانيا للحلف ولا تريد في الوقت نفسه تصعيد المواجهة العسكرية مع موسكو.
وأكد أن أوكرانيا، إذا خسرت فرصة الانضمام إلى الناتو، فإنها تبحث عن بديل على شكل ضمانات قوية تحميها من أي هجوم روسي جديد، مشيراً إلى أنه إذا لم تحصل على هذه الضمانات، فإن الحرب ستظل مفتوحة بدون رؤية سياسية واضحة، وأوضح أن الخيارات المطروحة تتمحور حول استعداد أمريكا لدعم جوي لأي قوة دولية يحتمل أن تنتشر في أوكرانيا كضمانة أمنية في حال التوصل إلى اتفاق سلام مع موسكو، إضافة إلى احتمال لجوء كييف لشراء أسلحة أمريكية بتمويل أوروبي كبديل عن نشر قوات برية أمريكية.
واستطرد البراسنة قائلاً: إن تأمين المجال الجوي الأوكراني يعد أحد الخيارات المرجحة، عبر تمركز طائرات في قواعد جوية موجودة في بولندا أو رومانيا وبمشاركة الولايات المتحدة، بينما ترفض روسيا وجود أي قوات للناتو في أوكرانيا بأي شكل من الأشكال، وأضاف أن الدعم العسكري من المرجح أن يتركز على التدريب والاستخبارات والدعم اللوجستي، ما يساعد أوكرانيا على إعادة بناء جيشها وتوفير إمدادات مستمرة من الأسلحة.
وأشار البراسنة إلى أن روسيا قد تقبل ضمانات أمنية أمريكية لأوكرانيا مقابل الاعتراف الرسمي بالأراضي التي احتلتها، ما يعني عملياً تقسيم أوكرانيا على المدى الطويل، وعدم انضمامها إلى الحلف، وهو ما يهدئ مخاوف موسكو. وختم قائلاً إن التوصل إلى اتفاق بشأن الضمانات الأمنية معقد، حيث تكمن المعضلة الرئيسية في كيفية جعل الضمانات قوية بما يكفي لثني روسيا عن مهاجمة أوكرانيا مجدداً، وفي الوقت نفسه، لا يريد التحالف الغربي تقديم ضمانات قوية إلى درجة تجعل روسيا تعارضها وترفضها بقوة.
طاولة المقترحات
من جانبه، قال الأستاذ الدكتور طارق عبد الحافظ الزبيدي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة بغداد، إن أوكرانيا تعاني من أزمة ثقة كبيرة إزاء التفاهمات الأولية التي جرت بين الرئيس بوتين والرئيس ترامب، مشيراً إلى أن الخوف مرتبط بالضغط الذي يمارس على كييف من أجل القبول بالشروط الروسية، مما يجعلها تتفاوض من منطلق الضعف، وأضاف أن هذا الموقف يؤكده الجانب الأمريكي على الدوام، حيث تؤكد واشنطن أن كييف لا تمتلك أي أوراق ضغط، وأن استمرار الحرب ليس في مصلحتها.
وأوضح الزبيدي أن الجانب الأوكراني يسعى إلى ضمانات تهدف إلى الحفاظ على أراضيه من أي احتلال جديد أو توسع، مبيناً أن أبرز هذه الضمانات تتمثل في ضرورة إيجاد قوة لحفظ السلام على طول الحدود، يمكن أن تكون هذه القوات مشتركة بين الجيش الأوكراني والقوى الأوروبية الأخرى، وأكد أن من أهم الضمانات كذلك استمرار الدعم الأوروبي والأمريكي للجيش الأوكراني، بهدف تقويته وجعله قادراً على ردع أي اعتداءات محتملة في المستقبل.
وأشار الزبيدي إلى أن بعض المقترحات التي طرحت خلال النقاشات الدولية تضمنت إعادة العمل بمعاهدة بودابست لعام 1994، الموقعة بين أوكرانيا وروسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة، والتي بموجبها تنازلت أوكرانيا عن السلاح النووي مقابل احترام سيادتها من قبل روسيا. وأضاف أن هذه المعاهدة تم اختراقها أكثر من مرة من قبل جميع الأطراف، فضلاً عن أن الظروف والمعطيات عام 1994 اختلفت تماماً عن الأحداث والظروف الجديدة على جميع المستويات، خاصة بعد تقدم روسيا داخل أوكرانيا وضمها لأربعة أقاليم بعد الاستفتاءات فيها.
وتابع الزبيدي قائلاً: إن اتفاقيات مينسك لعام 2014 فشلت منذ اليوم الأول، ولم تعد تُعتبر ضمن الضمانات الفعالة، كون أهم بنودها كان وقف إطلاق النار بين الطرفين، وهو ما لم يتحقق حتى الآن. وأوضح أن بعض الخبراء اقترحوا أن تكون الضمانات مستندة إلى المادة الخامسة من ميثاق الناتو، التي تؤكد أن أي هجوم على أحد الأعضاء يُعد هجومًا على جميع الدول الأعضاء، إلا أن هذا المقترح يفترض أن أوكرانيا عضو في الحلف، وهو أمر غير واقعي، خصوصاً أن روسيا وضعت ثلاثة شروط صارمة للتفاوض، أبرزها رفض انضمام أوكرانيا للناتو، ما يجعل هذه الضمانة غير قابلة للتطبيق حتى لو حصلت على موافقة أوروبية.
وأكد الزبيدي أن التوصل إلى اتفاق بين روسيا وأوكرانيا صعب للغاية، لكون كل طرف يرفض التنازل عن شروطه، ولا يوجد طرف مستعد للتنازل عن الأراضي مقابل السلام، حيث يتمسك الطرفان بمواقعهما، مشيراً إلى أن الحدود بين البلدين كبيرة جداً، ما يصعب ضبطها أمنياً بعد أي هدنة مقترحة. وأضاف أن الرئيس ترامب يتحدث عن اتفاق سلام دائم، لكنه حتى الآن لم يتمكن من إحراز أي تقدم ملموس في وقف إطلاق النار، والدليل على ذلك استمرار الحرب والقصف المتبادل، مشيراً إلى أن أفضل ما يمكن أن يتحقق في الوقت الحالي هو هدنة مؤقتة وهشة.
الحماية العسكرية
ويرى د. هيثم عمران، مدرس العلوم السياسية والقانون الدولي بجامعة السويس، أن قضية الضمانات الأمنية تمثل محورًا رئيسيًا في الأزمة الروسية–الأوكرانية، حيث تنظر كل من موسكو وكييف إلى أمنها القومي من منظور مختلف، وأوضح أن روسيا تسعى لمنع تمدد حلف الناتو شرقًا ومنع انضمام أوكرانيا أو جورجيا إليه، معتبرة أن أي توسع للناتو بالقرب من حدودها يشكل تهديدًا مباشرًا لأمنها القومي ولتوازن القوى في أوروبا، وأضاف عمران أن موسكو تطالب بترتيبات مكتوبة وملزمة قانونيًا تضمن عدم نشر بنية عسكرية أو أسلحة استراتيجية غربية بالقرب من حدودها، مع تعزيز ما تصفه بـ"حياد أوكرانيا".
وأشار د. عمران إلى أن أوكرانيا تنظر إلى الضمانات الأمنية من زاوية مختلفة، مؤكداً أن تجربة فقدان شبه جزيرة القرم عام 2014 والتعرض للاجتياح في فبراير 2022 جعلت كييف تعتبر أن أي ضمانات حقيقية يجب أن تتضمن التزامات صريحة بحمايتها عسكريًا في حال تعرضها لأي عدوان، وأضاف أن أوكرانيا تطالب بآلية تشبه المادة الخامسة من ميثاق الناتو، لكنها تُطبق عبر اتفاقات ثنائية أو متعددة الأطراف مع دول غربية كبرى مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا، بحيث تكون هذه الضمانات دفاعية جماعية وليست مجرد بيانات سياسية أو التزامات عامة.
وحول مذكرة بودابست 1994، أوضح عمران أنها كانت مرجعًا أساسيًا عند الحديث عن الضمانات الأمنية لأوكرانيا، حيث تنازلت كييف عن ترسانتها النووية مقابل تعهدات من روسيا والولايات المتحدة وبريطانيا باحترام استقلالها ووحدة أراضيها والامتناع عن استخدام القوة ضدها. لكنه أشار إلى أن المذكرة لم تتضمن آلية إلزامية للتدخل العسكري المباشر، وهو ما جعل كثيرين يرونها ضمانة "وهمية"، إذ لم تمنع روسيا من ضم القرم عام 2014 أو شن حرب شاملة لاحقًا، ما يجعل أي ترتيبات جديدة بحاجة لتجاوز نموذج بودابست وتقديم التزامات دفاعية فعلية.
أما بالنسبة لاتفاقيات مينسك 2014–2015، فبيّن عمران أنها جاءت كترتيبات مؤقتة لوقف إطلاق النار ومعالجة النزاع في شرق أوكرانيا، حيث ركزت على وقف القتال وسحب الأسلحة الثقيلة ومنح حكم ذاتي جزئي لمناطق دونيتسك ولوغانسك، لكنها لم توفر ضمانات أمنية بالمعنى التقليدي. وأوضح أن الفرق الجوهري بين مينسك وبودابست يكمن في طبيعة الالتزامات، فبينما ركزت بودابست على ضمانات سيادية عامة، تعاملت مينسك مع نزاع داخلي قائم، مما يجعل أوكرانيا اليوم أكثر إصرارًا على الحصول على ضمانات مشابهة لنظام الناتو الدفاعي الجماعي.
وحول إمكانية تطبيق مضمون المادة الخامسة من ميثاق الناتو دون عضوية كاملة لأوكرانيا، أشار د. عمران إلى أنه يجري التفكير في بدائل تحاكي مضمون المادة الخامسة، مثل اتفاقيات ثنائية أو متعددة الأطراف مع دول كبرى تتضمن التزامات صريحة باستخدام القوة حال تعرض أوكرانيا لعدوان، أو من خلال آلية الردع عبر التسليح المستمر وتزويد أوكرانيا بالأسلحة الحديثة وأنظمة الدفاع لضمان قدرتها الذاتية على الردع، بما يشبه "مظلة دفاعية" غير رسمية من الناتو. كما يمكن توسيع الصيغة الأوروبية عبر دمج أوكرانيا في مبادرات دفاعية أوروبية أو اتفاقيات الاتحاد الأوروبي الأمنية لتوفير حماية سياسية وعسكرية دون انضمام رسمي، وإنشاء نظام إنذار وردع مشترك من خلال غرفة عمليات مشتركة لمراقبة الحدود الشرقية ونشر قوات رد سريع في دول مجاورة، لتكون جاهزة للتدخل الفوري إذا تجاوزت روسيا خطوطًا محددة.
وأكد د. عمران أن هذه البدائل تمثل محاولة لتوفير ضمانات ملموسة لأوكرانيا دون الانخراط الكامل في عضوية الناتو، وهو ما يعكس التعقيدات السياسية والأمنية في المنطقة والصعوبات الكبيرة التي تواجه أي اتفاق مستدام بين الطرفين.