حذَّرنا الكاتب الشهير جورج أورويل في روايته "1984" من تزوير وتزييف التاريخ، وكتب يقول: "مَن يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل". بينما شرح عالم النفس دانيال كانيمان كيف يُعاد تشكيل الذكريات الجماعية؛ لتتناسب مع السرديَّات الحالية للجماعات والدول، مما يؤدي إلى "تزييف تاريخي نفسي". (وهو بالمناسبة عالمُ نفسٍ إسرائيليٌّ أمريكيٌّ).
الواقع أننا في خطرٍ عظيم، وأنا أدق الآن ناقوسَ الخطر هذا، خطرَ تزييف التاريخ بطريقة سلسة ومرعبة تتسلل عبر العقل والوعي دون إدراكٍ من الجميع، وفجأة سنصحو على كارثةٍ مُحَقَّقةٍ أو شبابٍ مُغَيَّبٍ.
والطريقة هي: انشر الأقاويل والروايات والقصص عبر منشورات طويلة على شبكات التواصل الاجتماعي؛ لتهدم صورةً نمطيةً جميلةً عن تاريخ دولةٍ ما، وهنا في حالتنا هي "مصر"؛ لكي تصل إلى ما تريد قوله.
ولنبدأ من المنشور الكارثي؛ فيتداول الناس هذه الأيام مقالةً طويلةً عريضةً عن تشي جيفارا، الثائر الأرجنتيني، وكيف وقع في الأسر وخانه راعي غنم. فقالوا للخائن: كيف يمكنك أن تخون رجلًا قضى حياته كلها يدافع عنك وعن حقوقك؟ أجاب الراعي بهدوء: معاركه ضد العدو كانت تُرعب أغنامي. (القصة مختلقة وغير حقيقية).
ثم بعد قصة جيفارا يلحقونها بقصة عن الزعيم المصري محمد كريم وتَنَصُّل أهل مصر منه، ويبدأون في سرد قصةٍ خياليةٍ عن رفض المصريين التبرع لإنقاذ محمد كريم من الأسر، والمطلوب له فديةٌ قدرها 1000 قطعةٍ ذهبيةٍ. ويتحدثون عن خيانة شعب مصر للبطل الذي ضحى من أجلهم (لاحظ جيدًا دَسَّ السم في القصة)، ورفضهم دفع الفدية، رغم أن التجار مدينون لمحمد كريم بـ 100 ألف قطعةٍ ذهبيةٍ (لاحظ التضخيم؛ لتحتقر هؤلاء الناس)، وكيف سمح نابليون (الطاغية) له بالذهاب لجلب الفدية، لكن محمد كريم فشل في إقناع التجار والناس.
نصل في النهاية إلى الكارثة الكبرى والسم المطلوب من القصة وهو: "عندما رجع محمد كريم إلى نابليون مُحَطَّمَ المعنويات. فقال له نابليون: لن أقتلك لأنك قاتلت ضدنا، بل لأنك ضحيت بحياتك من أجل شعبٍ جبانٍ، يفضل التجارة على الحرية."
لاحظ معي عزيزي القارئ جملة "شعب جبان"؛ هم يريدون هذه الكلمة تحديدًا؛ لكي تنغرز في عقلك ووعيك وتصدقها كأنها حقيقةٌ تاريخيةٌ حدثت، وتبدأ في الدفاع عن نفسك بما ليس فيك. ويضيفون على القصة شهادةً تاريخيةً من شخصٍ آخر؛ لتبدو القصة واقعيةً وفيها شهاداتٌ أيضًا، فكتبوا: "لخص محمد رشيد رضا الأمر قائلًا: 'مَن يقاتل من أجل شعبٍ جاهلٍ، كَمَن يحرق نفسه بالنار ليضيء طريق العميان'". لاحظ الإصرار على تكرار كلمة شعب، وهنا جاءت تحت عنوان "شعب جاهل".
الحقيقة أن هذه الواقعة لم تحدث مطلقًا. لا يوجد دليل تاريخي واحد يؤكد أن الشعب خان ورفض دفع فدية الـ 30 ألف ريال (وليس 1000 قطعةٍ ذهبيةٍ) لإنقاذ محمد كريم. وفقًا للمصادر، عندما عرض نابليون على محمد كريم دفع الفدية مقابل إطلاق سراحه، رفض كريم بنفسه هذا العرض، مؤكدًا موقفَه الشجاعَ بقوله: "إذا كان مُقَدَّرًا عليَّ القتل فلا فدية".
وهذا يشير إلى أن القرار كان شخصيًا من كريم نفسه، وليس بالضرورة نتيجةَ تخلِّي الشعب عنه. ومع ذلك، يجب ملاحظة أن الإسكندرية وقتها كانت تحت الاحتلال الفرنسي، والظروف كانت صعبة، مع سيطرة الفرنسيين على المدينة وسكانها البالغ عددهم حوالي 8000 نسمةٍ فقط. لم تكن هناك إشاراتٌ إلى أن الشعب كان لديه القدرة أو التنظيم لجمع هذا المبلغ الكبير تحت الاحتلال، أو أن كريم طلب منهم ذلك ورفضوا.
وتشير الروايات إلى أن كريم اختار مواجهةَ مصيره بشجاعةٍ، مُفَضِّلًا الموت على الخضوع أو التفاوض مع المحتل.
والمعنى واضح، هو تزييف التاريخ، والسم أيضًا واضح، ولكن عند مَن؟ عند مَن يفكر ويتَرَوَّى ثم يعيد التفكير في هذه القصص ولا ينشرها ولا يُعيد نشرها.
لكن عليَّ الاعتراف بأنهم نجحوا في مُخَطَّطهم وهو تزييف التاريخ وتشويه دولةٍ بحجم مصر. ففي التعليقات على "البوست" انهال بعض غير المصريين على "الشعب الجاهل" وعلى "الشعب الخائن" في القصة بالسب والقذف. والتعليقات الكثيرة أغلبها غاضبةٌ وتم اللعب في عقلها، باستثناء تعليقٍ أو اثنين أو ثلاثةٍ بالكثير. أحدهما رأيته من دكتور تاريخ مغربي قال إن القصة لم تحدث مع محمد كريم ولم تثبت.
فمثلًا المنشور الذي يدعي احتلال الجيش الهندي لمصر لم يحدث. ومنشور أن الفريق الشاذلي تَرْجَمَ معاني القرآن للبرتغالية في عام واحد لم يحدث. وغيرهما الكثير والكثير.
الفكرة قائمةٌ في السوشيال ميديا أن كل منشور ناجح ويلقى رواجًا (بالصح أو بالغلط) تتناقله بقية الصفحات؛ بغرض الانتشار هي الأخرى، وحتى تحصل على أموالٍ من هذه المنشورات وتحقق دخلًا ماديًا، دون حتى أن تنظر إلى خطورة تلك المنشورات الكاذبة على الوعي والعقل والشعب، وحتى على صورة الدولة في نظر الدول الأخرى.
وأغلب هذه المنشورات يكون هدفها الأكبر هو تشويه صورة التاريخ والدول في عيون كل الناس. وهل حقًا صدقت مقولة كانيمان، بأننا نتعرض لأكبر "تزييفٍ تاريخي نفسي"؟.. الإجابة بكل تأكيد نعم ثم نعم.
هل فكرت قبل أن تقوم بالمشاركة وضغط "لايك" و"أعجبني"؟!
هلا فكرت؟!!!
[email protected]