نالَتْ مِنَّا ما نالَتْ هذهِ القضيةُ، تلكَ الجريمةُ النكراءُ التي وقَعَتْ بأيدي طفلٍ صغيرٍ يُقيمُ بِمُحافظةِ الإسماعيليةِ، فتحَتِ الأبوابَ أمامَنا للتأمُّلِ، للتساؤلِ عن سببٍ يَحْتِمُ وقوعَها بهذا الشكلِ وبتلكَ الكيفيةِ، أَسْكَنَتْنَا وقائعُها بينَ أركانِها المُظلِمةِ قسرًا، أرغمَتْنا على مُتابعتِها برغمِ بشاعتِها وبرغمِ نُفورِنا منها، أطلَقَتِ العِنانَ لنا كي نُفتِّشَ عن الدافعِ الحقيقيِّ وراءَها، ردَّدَتْ سؤالَها وكرَّرَتْهُ علينا ألفَ مرَّةٍ، أينَ ذهَبَتْ براءةُ طفلٍ كهذا؟ كيفَ فكَّرَ في كلِّ هذا؟ وكيفَ فَعَلَ كلَّ ما فَعَلَ؟
لقد خَطَّطَ ورتَّبَ لِكارثةٍ إنسانيةٍ مُكتملةٍ، كتَبَ ونفَّذَ، ثم أَخرَجَتْ نفسُهُ الخبيثةُ كلَّ أبعادِ المشهدِ الدمويِّ البشعِ بكلِّ ظُلمٍ وجبروتٍ يُخالِفُ الفِطرةَ السليمةَ التي جُبِلَ عليها، فَعَلَ هذا دونَ أن يشعرَ بالخوفِ، فأينَ كانَ قلبُهُ؟ وهل حقًّا ماتَتْ فِطرتُهُ؟ والذي عَظَّمَ من إحساسِنا بالحيرةِ هي صلابتُهُ، صُمودُهُ وعدمُ انهيارِهِ، حينَ تقدَّمَ وسطَ رجالِ الأمنِ وسرَدَ التفاصيلَ، كأنَّهُ أمرٌ عاديٌّ لا يخصُّهُ، وقَفَ يُشيرُ هنا وهناك كأنَّهُ يَحكِي قصَّةً وقَعَتْ بيَدِ غيرِهِ لا بيَدِهِ.
لُطفًا، لا تُحدِّثْني عن مُشكلاتٍ اجتماعيةٍ قد تعرَّضَ لها، فبعضُنا إنْ لم يكنْ أغلبُنا مَرَّ بِمثلِ هذهِ المُشكلاتِ وعَبَرَ منها نقيًّا طاهرًا، كمْ من بيتٍ دارَتْ تحتَ أسقُفِ حُجُراتِهِ معاركُ عِدَّةٌ وخلافاتٌ شتَّى، لكنَّها لم تُفْضِ في النهايةِ لِوقوعِ جريمةٍ بِمثلِ تلكَ البشاعةِ، لم تُمَهِّدْ هذهِ الخلافاتُ لِلوقوعِ في كارثةٍ كتلكَ التي وقَعَتْ، كمْ من صِعابٍ واجَهَتْنا، كمْ من عَوائِقَ اعترضَتْ طريقَنا، مَرَّتْ بِنا ومَرَرْنا بها، لكنَّها لم تَصِلْ بِنا لِتلكَ المرحلةِ من الانتقامِ الجنونيِّ الذي تخطَّى حدودَهُ وفَقَدَ رُشدَهُ.
كمْ تعرَّضْنا لِنَوباتٍ من يَأْسٍ مُؤقَّتٍ، لكنَّها كانتْ تَمضِي بسلامٍ ونحنُ نمضِي في طريقِنا من بعدِها سالمينَ، كانَ بداخلِ كلٍّ مِنَّا ثوابتُ عقيدةٍ قويةٍ راسخةٍ تُحرِّكُهُ برغمِ صِغَرِ سِنِّهِ ونُعومةِ أظفارِهِ، ضميرٌ حَيٌّ يَقِظٌ وفِطرةٌ سليمةٌ تُوجِّهُنا لِما فيهِ الخيرُ وتدعَمُهُ، تُصاحِبُنا في كلِّ موقفٍ كأنَّها ظِلٌّ يُظِلُّنا، خارطةُ طريقٍ وزادُ رحلةٍ، ورصيدٌ من محبَّةٍ هائلةٍ تَمَكَّنَتْ من غَرْسِ جُذورِها بأنفسِنا وقلوبِنا الصغيرةِ، ثم أخرجَتْ من بعدِ ذلكَ بكلِّ الخيرِ شجرتَها شديدةَ الجمالِ والنُّدرةِ.
إنَّ الجلوسَ مع الأبناءِ والحديثَ معهم لم يَعُدْ رَفاهيةً، لقد أصبحَ احتياجًا وضرورةً حتميَّةً؛ خاصَّةً في عالَمٍ أصابَهُ الهَوَسُ كعالمِنا، علينا أن نَستَمِعَ إليهم ونُنصِتَ جيِّدًا، نُناقِشَ أفكارَهم ونَدخُلَ بِصُحبتِهم إلى مَجاهِلِ عالَمِهم، نُقاسِمَهم واقعَهم الذي يعيشونَهُ مُحاوِلينَ حمايتَهم، نَربِطَهم بِتَعاليمِ دِينٍ يُحصِّنُهم من كلِّ شرٍّ قد يُحيطُ بهم، بِوَهجِ إيمانٍ يَضمَنُ لهم سلامتَهم، يَحفَظُ عليهم نقاءَ سريرتِهم.