فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ

23-10-2025 | 14:25

كان مُسَيْلِمةُ الكذَّابُ شخصًا مشئومًا! إذا دعا لمريضٍ مات، وإذا مسح على رأسِ طفلٍ مَرِضَ، وإذا شَرِبَ من بئرٍ جَفَّتْ!

ملأ الحِقدُ قلبَه وعقلَه ووجدانَه على رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم)، حتى أضحَى هذا المُسَيْلِمةُ أُضحوكةَ الدُّنيا كلِّها.

ورغم وضوحِ كذبِهِ، ورسوخِ ضلالِهِ، وثبوتِ شُؤمِهِ، آمَنَ بنُبُوَّتِهِ خَلْقٌ كثيرٌ من قومِهِ! بل كانوا يطلبونَ دعاءَه وبركتَه! نصروهُ، وزادوا من ضلالِهِ، لا حُبًّا واقتناعًا، بل عِنادًا واستكبارًا، وتَعصُّبًا ضدَّ المسلمينَ، وكان منهم من يقول: إنَّا لنعلمُ أنَّهُ كذَّابٌ! ولكنَّ كذَّابَ ربيعةَ (يقصدونَ مسيلمةَ) أَحَبُّ إلينا من صادقِ مُضَرَ (يقصدونَ رسولَ اللهِ ﷺ)!

مُسَيْلِمةُ أحدُ أكبرِ دجَّالِي التاريخِ، عاصَرَ النبيَّ الأكرمَ (صلى الله عليه وسلم) وادَّعَى باليمامةِ أنَّ اللهَ بَعَثَهُ نبيًّا، وأوحَى إليهِ، وكذلك فعلَتْ زوجتُهُ، وشريكتُهُ الأولى في الزورِ والبُهتانِ، سَجَاحُ بنتُ الحارثِ، ادَّعَتِ النبوةَ أيضًا! وقال هذا الكذَّابُ إنَّهُ أُسْقِطَ عنهُ صلاتانِ، وهما صلاتَا الفجرِ والعشاءِ، مَهْرًا لها!

أعلَنَ أنَّهُ شريكُ محمَّدٍ (صلى الله عليه وسلم) في نُبُوَّتِهِ، فلقَّبَهُ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) بالكذَّابِ.

كتبَ رسالةً إلى رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) جاء فيها: "من مُسَيْلِمةَ، رسولِ اللهِ! إلى محمَّدٍ، رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم). أمَّا بعدُ، فإنِّي قد أُشرِكتُ معكَ في الأمرِ! وإنَّ لنا نصفَ الأرضِ، ولقريشٍ نصفَها، ولكنَّ قريشًا قومٌ يعتدونَ!".

فأجابَهُ النبيُّ (صلى الله عليه وسلم): "بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ، من محمَّدٍ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) إلى مُسَيْلِمةَ الكذَّابِ، أمَّا بعدُ، فالسلامُ على مَن اتَّبَعَ الهُدَى، فإنَّ الأرضَ للهِ، يُورِثُها مَن يشاءُ مِن عبادِهِ والعاقبةُ للمُتَّقينَ".

كتبَ مُسَيْلِمةَ خرافاتٍ مُضحِكاتٍ، وأسماها، قرآنَ مُسَيْلِمةَ!!! وممَّا جاء فيها:
"يا ضِفدَعُ بنتَ ضِفدعةٍ، نُقِّي ما تَنُقِّينَ، أعلاكِ في الماءِ وأسفلكِ في الطِّينِ، لا الشاربَ تَمنَعِينَ، ولا الماءَ تُكَدِّرِينَ!!"
"الفِيلُ ما الفيل وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلُ، لَهُ ذَنَبٌ وَبِيلٌ، ولَهُ خُرْطُومٌ طَوِيلٌ!!".

تخيَّلوا! وصدَّقَهُ بعضُهم!

غريبةٌ هي أحوالُ الناسِ، وعجيبةٌ تصرُّفاتُهم، كثيرًا تتناقضُ مع الواقعِ، وتتنافَى مع المنطقِ والعقلِ والرَّشادِ.

وغرائبُ السِيَرِ تَشهَدُ بذلكَ، إذ كيفَ لِمَجوسيٍّ، مثلِ أبي لؤلؤةَ، بعد أن نجَّاهُ المسلمونَ من الأسْرِ لدى الرومانِ، وأكرموا وِفادَتَهُ في المدينةِ، أن يقتلَ أميرَ المؤمنينَ عمرَ بنَ الخطابِ، رضي الله عنه وأرضاه، الذي ملأ الأرضَ عدلًا، وهو يُصلِّي الفجرَ في المسجدِ النبويِّ!

كيف أقنعَ المنافقُ ابنُ سَبَأٍ بعضَ المسلمينَ بظُلمِ الخليفةِ عثمانَ بنِ عفَّانَ! المتصدِّقِ الزاهدِ، ذي النورينِ، حتى ثاروا عليهِ، وقتلوهُ وهو يقرأُ القرآنَ!

كيف لِرَجُلٍ قِيلَ عنهُ إنَّهُ صالحٌ، كعبدِ الرحمنِ بنِ مُلجَمٍ، وقد بَدَا للناسِ صاحبَ صلاةٍ ودِينٍ وتقوَى، أن يُبَرِّرَ فكرةَ قَتْلِ الإمامِ عليِّ بنِ أبي طالبٍ، بابِ مدينةِ العِلمِ، وهو يُصلِّي!

كيف لخادمِ الحسنِ بنِ عليٍّ، الذي لم يجدْ منهُ إلَّا خيرًا، أن يخونَهُ، ويضعَ لهُ السُّمَّ في الطعامِ..

كيف قتلَ السفَّاحُ يزيدُ بنُ معاويةَ وجيشُهُ الضالُّ، بلا تردُّدٍ، الحسينَ بنَ عليٍّ، سِبْطَ رسولِ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) ومثَّلوا بجثَّتِهِ، وقطَعُوا رأسَهُ الشريفَ، بدمٍ باردٍ..

الأمثلةُ كثيرةٌ، وأساليبُ الإقناعِ مُتعدِّدةٌ، والظلمُ واحدٌ، والجهلُ مِلَّةٌ واحدةٌ، وتارةً يكونُ باسمِ الدِّينِ، وتارةً باسمِ الوطنِ.

لا تنخدعْ بالناسِ، ولا تَكُنْ عَوْنًا لباطلٍ، أو عدوًّا لحقٍّ، فالناسُ في الأرضِ لا عدلٌ ولا ذِمَمُ.

أعرِفُ الكثيرَ من اللصوصِ، يضعونَ على مكاتبِهم: {هذا من فضلِ ربي}، كما قال، أديبُ نوبل، نجيبُ محفوظُ..

عندما اجتاحَ المغولُ مدينةَ بُخارَى، إحدى بلادِ خُرَاسَانَ المسلمةِ، عَجَزُوا عن اقتحامِها، فكتبَ جنكيزُ خانَ لأهلِ المدينةِ، أنَّ مَن سَلَّمَ لنا سلاحَهُ، ووقفَ في صفِّنا، فهو آمنٌ! ومَن رفَضَ التسليمَ، فلا يَلُومَنَّ إلَّا نفسَهُ.

فانشقَّ صفُّ المسلمينَ اثنينِ:

فمنهم رافضٌ لهُ، وقالوا: لو استطاعوا غزوَنا، لَما طلبوا التفاوُضَ معنا!! فهي إحدى الحُسْنَيَيْنِ، إمَّا نصرٌ من اللهِ يَسُرُّ بهِ الموحِّدينَ، وإمَّا شهادةٌ نُغِيظُ بها العدوَّ.

أمَّا الصنفُ الثاني، فَجَبُنَ عن اللقاءِ وقال: نريدُ حَقْنَ الدماءِ، ولا طاقةَ لنا بقتالِهم، ألا ترونَ عددَهم وعُدَّتَهم؟! فكتبَ جنكيزُ خانَ لِمَن وافقَ على الرضوخِ والتسليمِ، أن أَعِينونا على قتالِ مَن رفَضَ منكم، نُوَلِّكُم بعدَهم أمرَ بلدِكم.

فاغترَّ الناسُ بكلامِهِ رَغَبًا ورَهَبًا، فنزلوا لأمرِهِ، ودارتْ رَحَى الحربِ بين الطرفينِ، طرفٌ دافعَ عن الحقِّ حتى قضَى نَحبَهُ، وطرفٌ باعَ نفسَهُ للتتارِ، فصاروا عبيدًا من عبيدِهم.

وفي النهايةِ، انتصَرَ الخَوَنَةُ، للأسفِ الشديدِ، ولكنَّ الصدمةَ الكبرى، أنَّ التتارَ سحبوا منهم السلاحَ، وأَمَرُوا بذَبحِهم كالنعاجِ، وقال جنكيزُ مقولتَهُ الشهيرةَ: "لو كان يُؤمَنُ جانبُهم، لَما غَدَرُوا بإخوانِهم، من أجلِنا، ونحنُ الغرباءُ!"

هؤلاءِ اقتنعوا بتخاذلِهم، وتفاخروا بغدرِهم، وصُوِّبَتْ أسلحتُهم نحو إخوانِهم في الدِّينِ، واحتَمَوا بعَدُوِّهم اللئيمِ، وانتظروا مُكافأةَ الخيانةِ، فأكلَتْهُم كلابُ عدوِّهم، يومَ قَتَلُوا أُسُودَ بلادِهم، فخَسِرُوا الدُّنيا، وقبلَها خَسِرُوا الآخرةَ.

في حياتِنا الآنَ كثيرونَ، يعيشونَ بيننا، كذَّابينَ كمُسَيْلِمةَ، أفَّاقينَ كأتباعِ مُسَيْلِمةَ، يَعلمونَ طريقَ الحقِّ، ويعرِفونَ سبيلَ العدلِ، هي قلوبٌ قاسيةٌ كالحِجارةِ، وربَّما أشدُّ قسوةً، قلوبٌ حَسَدَتْ، فلمَّا حَسَدَتْ نَسِيَتْ، فلمَّا نَسِيَتْ ظَلَمَتْ. قلوبٌ عَمِيَتْ، فيما كانَ أصحابُها مُبصِرينَ: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة