كلمات كعواء الذئب

22-10-2025 | 14:34

مجرَّدُ كلماتٍ قد تُصيبُ بها شخصًا بأضرارٍ بالغةٍ، وتظُنُّ أنك تنطقُ حقًّا، ولكنك تهرتِلُ في سَرْدِكَ، وتنطلقُ منك الكلماتُ أَشْبَهَ بالرصاصِ، تُدمِي منها القلوبَ دمًا، ويَخِرُّ منها الرجالُ صَرْعَى، وإذا حاولتَ تضميدَ الجراحِ، وإدراكَ الخطأِ، فلن يُفيدَ؛ لأنه جاء بعد فواتِ الوقتِ، وأصبحَ الجرحُ غائرًا.

وغابَ عن القاتلِ أنَّ مقذوفاتِ كلماتِه من المستحيلِ عودتُها مرَّةً أخرى إلى فوهةِ جَوْفِهِ، ولابُدَّ أن يَعِيَ القاتلُ من كارثةِ رصاصِ كلماتِه حسب حديثِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم: "إنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من رضوانِ اللهِ لا يُلقِي لها بالًا، يرفعُ اللهُ بها درجاتٍ. وإنَّ العبدَ ليتكلَّمُ بالكلمةِ من سخطِ اللهِ لا يُلقِي لها بالًا، يهوي بها في جهنَّمَ".

ومن اللافتِ للنظرِ في وقتنا الحاضرِ أنَّ عددًا لا بأسَ به من البُخلاءِ يَطْفُونَ على السطحِ، ويُثقِلُ عليهم جَبْرُ الخاطرِ بكلمةٍ طيِّبةٍ، ولا يَعْزُبُ عنك أنَّ الحِقْدَ صارَ ظاهرةً مُنافيةً للآدابِ، تَتَغذَّى عليه صدورُ الكثيرِ من المجتمعِ، ولا يستطيعون إخفاءَ الغِلِّ، وينضحُ على ألسنتهم تلقائيًّا، وتأبَى نفوسُهم النطقَ بكلمةٍ تُسَكِّنُ النفوسَ، وتُذْهِبُ اليأسَ.

والكلماتُ البَوَارُ تَجْرُفُ الحياةَ من الأوطانِ، وتُشْعِلُ حروبًا، وبسببِ كلمةٍ يَثُورُ الإنسانُ، وتَسِيلُ الدماءُ ثأرًا لكرامتهِ، وفي النهايةِ يَخْسَرُ مستقبلَهُ، ويَفْقِدُ ما تبقَّى من حياتهِ، وحين نرصدُ ردَّ فعلِ الكراهيةِ، نَصْطَدِمُ بأنها تُزَعْزِعُ الاستقرارَ، وتُحْرِقُ المحصولَ، وتُصيبُ الأيدي العاملةَ بالشَّلَلِ، والنتيجةُ فشلٌ وفقرٌ.

ولا تَسْتَخِفَّ بكلمةٍ تَنطِقُ بها ساخرًا، قد تُفجِّرُ فِتنةً بين زوجينِ، أو بين صديقينِ، وهو ما حدثَ بالفعلِ في الواقعِ، أنَّ شخصًا تَوَسَّطَ بين زوجينِ وبينهما طفلانِ عَزَمَا على الانفصالِ، وكان الشخصُ مَحَلَّ ثقةِ الطرفينِ، وبدأ رحلتَهُ المَكُّوكيَّةَ بين الزوجينِ، ويتحدَّثُ تارةً مع الزوجةِ بكلماتٍ في ظاهرِها الخيرُ وفي باطنِها غِلٌّ، ثم يتحدَّثُ تارةً إلى الزوجِ، ويُكرِّرُ نفسَ المَكْرِ معهُ، وتكونُ النتيجةُ المنطقيةُ لرحلتِهِ الطلاقَ، ويستقبِلُ الخبيثُ القرارَ مرتديًا قناعَ الحزينِ، وقلبُه يَرقُصُ فرحًا.

بينما تَشترِطُ الآيةُ القرآنيةُ للإصلاحِ بين الزوجينِ توافرَ صدقِ السعيِ لإنهاءِ الخلافِ، ويقولُ المولى عزَّ وجلَّ: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا}، وتَختِمُ الآيةُ قولَها بأَسْبَقيَّةِ علمِ اللهِ الخبيرِ على صدقِ النيةِ في الإصلاحِ.

وهذا يُجْبِرُ أيَّ إنسانٍ على أن يَحْذَرَ ألفَ مرَّةٍ من سِكِّينِ لسانِهِ، وأن يُفَكِّرَ جيِّدًا قبلَ التحدُّثِ، وإذا كان حديثُهُ شرًّا فلن يَسْلَمَ من جَرَّاءِ فعلِه مهما طالَ الزمنُ، ولا يَنقُصُ الواقعَ من حولِك إشاعةُ مزيدٍ من الأحقادِ، فالفتنُ تُمَزِّقُهُ إِرْبًا، فَكُنْ إيجابيًّا لِتَقِيَ نفسَك وأحبابَكَ من سُوءٍ يَكَادُ يَنَالُ الجميعَ، وما أحوَجَنَا لتعزيزِ الثقةِ والتفاؤلِ من أجلِ البناءِ، واستئصالِ شأفةِ الحاقدينَ والماكرينَ.

ولكي تُميِّزَ بين الخبيثِ والطيِّبِ، تَتَبَّعْ معادنَ النفوسِ وأصلَ نَشْأَتِها، فعُوَاءُ الذئبِ دليلُ الغَدْرِ مهما تَجَمَّلَ، وأَظْهَرَ وداعةً، والخيلُ على النقيضِ معقودٌ على نواصِيها الخيرُ، ولو اسْتَعْصَى ترويضُها، ومعنى الخيرِ هنا الأجرُ العائدُ على صاحبِها، والغنيمةُ التي يَفُوزُ بها.

وقال تعالى: {الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}، ومن نِعَمِ اللهِ على الإنسانِ دونَ غيرِهِ من المخلوقاتِ مَنْحُهُ مُعجِزَةَ البيانِ، وبواسطتِهِ تَقدِرُ على التعبيرِ والنطقِ والكتابةِ، ومن خلالِهِ تَفهَمُ ما بينَ السطورِ والمُسْتَتِرَ من القولِ، ومن إعجازِ البيانِ شُمولُهُ على التشبيهِ والاستعارةِ والمجازِ.

وللأسفِ كثيرٌ من البشرِ أَخْضَعَ نعمةَ البيانِ لنوازعِ شرِّهِ، غيرَ أنَّ مَن شَمِلَتْهُ رحمةُ ربِّهِ طَوَّعَ بيانَهُ في سبيلِ الإصلاحِ بين الناسِ، وبناءِ الثقةِ بين أفرادِ الأُسرةِ ومحيطِهِ الاجتماعيِّ، وعَفَا عن استخدامِ كلماتِ الخرابِ والتدميرِ، وأَخْضَعَ نعمةَ البيانِ لزراعةِ أشجارٍ تَطْرَحُ ثمرًا ناضجًا، وَوَظَّفَ بيانَهُ في نشرِ العلمِ لا في نشرِ الضلالةِ والجهلِ، حتى لا تكونَ كلماتُهُ سببًا في أن يُكَبَّ في النارِ على وجهِهِ.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة