توقفنا في الجزء الثالث عند قوله تعالى: (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ)، وعلمنا أنَّ الصلاةَ عمادُ الدين وركنُه الحصينُ، فإذا صَلَحَتْ صَلَحَ سائرُ عملِ المسلمِ، ووضحنا حديثَ النبي صلى الله عليه وسلم. ووضحنا أنَّ أولَ ما يحاسَبُ عليه المسلمُ يومَ القيامةِ الصلاةُ. وشرحنا بالدليلِ عقوبةَ تاركِ الصلاةِ عامدًا متعمدًا ومات على ذلك.
والآن ونحن في هذا المقامِ لا زلنا في سياحةٍ روحانيةٍ مع وصايا لقمانَ الحكيمِ، لعلنا نتحررُ من قيودِ شهواتنا التي كَبَّلَتْنَا وأَقْعَدَتْنَا عن الطاعةِ ونعودُ عودًا حميدًا إلى سيرتِنا الأولى، إلى إنسانيتنا، وإلى أداءِ المهمةِ المكلفونَ بها، (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ).
وصيةُ لقمانَ لابنِه: (وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ). نطرحُ سؤالًا: لماذا أتى الأمرُ بالمعروف والنهيُ عن المنكرِ بعدَ التوحيدِ، والإحسانِ إلى الوالدين، وإقامِ الصلاةِ؟ الإجابةُ واضحةٌ بذاتِها؛ لأنَّ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ يجمعُ بينَ دَفَّتَيْهِ العباداتِ والطاعاتِ والمعاملاتِ.
ولزيادةِ الإيضاحِ، أصحابُ التوحيدِ أَمَّارُونَ بالمعروفِ، بمعنى: ينصحونَ الناسَ بعبوديةِ اللهِ تعالى الواحدِ الأحدِ، يأمرونَ بالمعروفِ دونما غلظةٍ في الأقوالِ أو الأفعالِ، وينهونَ عن الشركِ باللهِ موضحينَ عقوبةَ الشركِ باللهِ تعالى إذا ماتَ عليه الإنسانُ، فالشركُ باللهِ تعالى لا نقولُ مُنْكَرًا وحسبُ بل هو رأسُ المناكيرِ، فليس بعدَ الشركِ ذنبٌ.
كذلك الأمرُ بالمعروفِ والنهيُ عن المنكرِ يرتبطُ بالإحسانِ إلى الوالدينِ، فإذا رأينا زيدًا أو عمرًا مُحْسِنًا إلى والدَيْهِ شَدَدْنَا على يدِه ونشجعُه على مواصلةِ البرِّ بوالدَيْهِ، أما النهيُ عن المنكرِ، فإذا وجدنا ابنًا عاقًّا نُقَوِّمُهُ وننهاهُ عن عقوقِهِ لأبوَيْهِ بالتي هي أحسنُ، وهذا هو الطريقُ القويمُ إلى الدعوةِ إلى اللهِ تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).
أما فقهُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ وعلاقتُهُ بفَرْضِيَّةِ الصلاةِ، فإقامةُ الصلاةِ أمرٌ بالمعروفِ لِمَنْ لا يصلي ولا يدخلُ المسجدَ عن طريقِ توضيحِ أهميةِ الصلاةِ؛ لأنها علاقةٌ خاصةٌ بينَ العبدِ وربِّهِ. وننهى عن تركِها، فإذا وجدنا واحدًا لا يصلي نَهَيْناهُ عن هذا الفعلِ المشينِ مُحَبِّبِينَ إياه في الصلاةِ. هذا بالنسبةُ للعباداتِ، قيسوا على ذلكَ الزكاةَ والصيامَ والحجَّ عندَ الاستطاعةِ.
لكنَّ الأمرَ بالمعروفِ هاهنا يكونُ بالتي هي أحسنُ دونما غلظةٍ أو فظاظةٍ في القولِ، بل بالعكسِ، بأسلوبٍ لَيِّنٍ رقيقٍ حتى لا يحدثَ ردُّ فعلٍ مُعاكِسٌ، فقد يتعرضُ الآمرُ بالمعروفِ والناهي عن المنكرِ إلى التهكُّمِ والسخريةِ، أو قد يترتبُ على النهيِ عن المنكرِ مُنْكَرٌ أكبرُ، كأن يتعرضَ الناهي إلى الضربِ أو في أضعفِ الأحوال السَّبِّ والقذفِ.
أما جدليةُ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ في المعاملاتِ، فواقعُنا الذي نحياهُ يحتاجُ منا وقفاتٍ ووقفاتٍ، في الأسواقِ نحتاجُ إلى فقهِ الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، في مؤسساتِنا نحتاجُ إلى الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ، في جامعاتِنا حَدِّثْ ولا حَرَجَ، نحنُ في أمَسِّ الحاجةِ إلى الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ.
في معاملاتِنا مع بعضِنا البعضِ في حياتِنا اليوميةِ، داخلَ أُسَرِنَا، في شوارعِنا، ألَسْنَا في أمَسِّ الحاجةِ إلى الأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكرِ؟ هل يجوزُ أن نرى بأعيُنِنَا المنكراتِ تُمَارَسُ في الشوارعِ ولا ننهى عنها؟ هل يجوزُ أن نجدَ مَنْ يُشَكِّكُ في بلدِنا وما حققتْهُ من إنجازاتٍ ولا ننهَاهُ عن مُنْكَرِهِ ونوضحُ له بالتي هي أحسنُ ما تَمَّ من مُنْجَزَاتٍ على أرضِ الواقعِ؟ هل يجوزُ أن نشاهدَ المضايقاتِ للمارةِ من بعضِ الشبابِ الواقفينَ على قوارعِ الطرقاتِ ونتركَهُم ونقولُ: "لا شأنَ لنا"؟
إذا أردنا صلاحَ أحوالِنا، فضرورةٌ مُلِحَّةٌ أن نطبقَ الأمرَ بالمعروفِ والنهيَ عن المنكرِ على أنفسِنا ومَنْ نَعُولُ أولًا ثم نبدأُ بالآخرينَ، حتى لا ندخلَ تحتَ طائلةِ الآيةِ الكريمةِ: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ)، فهل ننهى عن التدخينِ ونكونُ مُدَخِّنِينَ، أو نأمرُ بالصلاةِ ونحنُ لا نصلي؟
لكنْ ضرورةٌ مُلِحَّةٌ في نَهْيِنَا عن المنكرِ ألَّا يترتبَ على المنكرِ مُنْكَرٌ أعظمُ، فلا يجوزُ بحالٍ من الأحوالِ أن ننهى أحدًا عن سبِّ الدينِ مثلًا بضربِهِ أو التشاجرِ معَهُ، فقد يؤدي ذلكَ إلى عِرَاكٍ قد يتحولُ إلى جرائمِ قتْلٍ، أو ننهى عن مُنْكَرٍ كأن نتسببَ بفضيحةِ أحدٍ، والنصيحةُ على الملأِ فضيحةٌ. وأختتمُ حديثي بقوله تعالى: (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ). وأختتمُ حديثي أيضًا بحديثِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "من رأى منكم منكرًا فليغيرْه بيدِه فإن لم يستطعْ فبلسانِه. فإن لم يستطعْ فبقلبِه. وذلك أضعفُ الإيمانِ".
وللحديثِ بقيةٌ.
* أستاذُ الفلسفةِ بآدابِ حلوانَ.