ثمةَ قناعةٌ عميقةٌ في الغربِ أنَّ غيابَ بوتينَ يعني غيابَ المشكلةِ، وأنَّ روسيا ستنهارُ لو رحلَ القيصرُ الجديدُ، أو جرى اغتيالُه في عمليةٍ بدونِ بصماتٍ. وفي الواقعِ، هؤلاءِ الخبراءُ يرونَ أنَّ ما نشهدُه مجرَّدُ اجتهاداتٍ، ورؤيةُ شخصٍ واحدٍ يمسكُ بكلِّ الخيوطِ، وليسَ هناكَ مؤسساتٌ أو قوى اجتماعيةٌ وسياسيةٌ تتبنى ما باتَ يُعرفُ بالظاهرةِ "البوتينيةِ".
ويُمثلُ بوتينُ ظاهرةً تُقلقُ الغربَ وتُحيرُه؛ فلقد باتَ القيصرُ، الذي أعادَ هيبةَ بلادِه بعدَ انهيارِ الاتحادِ السوفيتيِّ في 1991، يتفوقُ على الزعيمِ التاريخيِّ جوزيفِ ستالينَ، ليصبحَ أطولَ زعماءِ روسيا بقاءً في المنصبِ منذُ أكثرَ من 200 عامٍ. ويتَّسمُ حُكمُ بوتينَ بالقوميةِ الروسيةِ المحافظةِ، وبه أصداءٌ قويةٌ لحُكمِ القياصرةِ، كما يحظى بتأييدِ الكنيسةِ الأرثوذوكسيةِ، وفقَ ما ذكرتْهُ شبكةُ "بي بي سي" البريطانيةُ.
وتشهدُ الفترةُ الأخيرةُ جدلًا حولَ تأمينِ بوتينَ في رحلتِه للقاءِ دونالدِ ترامبَ في المجرِ، فقد أعلنَ وزيرُ خارجيةِ بولندا أنَّ سلطاتِ بلادِه "لا تستطيعُ ضمانَ سلامةِ تحليقِ الطائرةِ التي سيكونُ على متنِها بوتينُ متوجهةً إلى قمةِ بودابستَ للقاءِ دونالدِ ترامبَ". وقالَ الوزيرُ البولنديُّ: "لا يمكننا ضمانُ أنَّ محكمةً مستقلةً لن تأمرَ الحكومةَ البولنديةَ بإيقافِ طائرةِ بوتينَ أثناءَ وجودِها في المجالِ الجويِّ البولنديِّ، لتسليمِه إلى المحكمةِ الجنائيةِ الدوليةِ". وسارعَ وزيرُ خارجيةِ روسيا لافروفُ بوصفِ تهديداتِ الوزيرِ البولنديِّ بأنَّها تُبينُ أنَّ "البولنديينَ مستعدونَ لتنفيذِ أعمالٍ إرهابيةٍ".
وفي الوقتِ نفسِه، أعربَ العقيدُ المتقاعدُ في الاستخباراتِ الخارجيةِ الروسيةِ أندريه بيزروكوفُ عن قلقِه بخصوصِ الأمنِ الشخصيِّ المتعلقِ بالرئيسِ بوتينَ خلالَ القمةِ مع ترامبَ في بودابستَ، وقالَ بيزروكوفُ إنَّ أجهزةَ الاستخباراتِ البريطانيةِ قد تُعدُّ لمحاولةِ اغتيالٍ هناكَ، وطالبَ في تصريحاتٍ مع الإعلاميِّ الشهيرِ فلاديميرِ سولوفيوفَ بوتينَ بألَّا يسافرَ إلى بودابستَ! لأنَّ لديهِ مخاوفَ جدِّيةً للغايةِ بشأنِ بودابستَ، فعقليةُ البريطانيينَ بأكملِها مبنيةٌ على أنَّ غيابَ بوتينَ يعني غيابَ المشكلةِ، وأنَّ روسيا ستنهارُ".
وحذَّرَ بيزروكوفُ، الذي عملَ سرًّا في دولِ الغربِ لأكثرَ من رُبعِ قرنٍ، من أنَّ "النخبةَ البريطانيةَ، التي تجدُ نفسَها في وضعٍ يائسٍ بسببِ تراجعِ قوةِ المملكةِ المتحدةِ، مستعدةٌ الآنَ لـ"المخاطرةِ بكلِّ شيءٍ"، و"بالنسبةِ لهم، فإنَّ أيَّ ضربةٍ مُوجَّهةٍ إلينا، حتى لو كانتْ عمليةً غادرةً تمامًا قد تُنفَّذُ خلالَ هذا اللقاءِ في بودابستَ، تُعدُّ أحدَ الخياراتِ الممكنةِ".
وفي الوقتِ نفسِه، يعترفُ الغربُ بأنَّ القيصرَ هو الأكثرُ نفوذًا وشعبيةً في روسيا منذُ 1999، كما يعتقدُ أكثرُ من نصفِ الروسِ الذينَ استُطلعتْ آراؤُهم مؤسسةَ الرأيِ العامِ، أنَّه "خلالَ فترةِ وجودِه في السلطةِ، تمكَّنَ من تحقيقِ الأهدافِ التي حددَها لنفسِه بالكاملِ". وفي الوقتِ نفسِه يرى الغربُ أنَّ بوتينَ بمثابةِ قائدٍ حربيٍّ يمسكُ بالسلطةِ بكلتا يديهِ، وذلكَ ما بينَ الحربِ على أوكرانيا والمواجهةِ مع الغربِ واحتجاجاتِ المعارضةِ.
ووفقًا للمصادرِ الغربيةِ، فقد تميَّزَ حُكمُ بوتينَ منذُ وصولِه إلى الكرملينِ بسمتينِ رئيسيتينِ: أولاهما التصلبُ مع السيطرةِ على الأثرياءِ ومراقبةِ الإعلامِ والمعارضةِ. أمَّا السمةُ الثانيةُ فهي السعيُ إلى اكتسابِ سلطةٍ جيوسياسيةٍ، من خلالِ الحربِ في جورجيا، وضمِّ شبهِ جزيرةِ القرمِ الأوكرانيةِ، والتدخلِ العسكريِّ في سوريا، وأخيرًا الحربِ على أوكرانيا. ولقد ظنَّتْ أوروبا خطأً أنَّها قادرةٌ على توجيهِ هذهِ الطموحاتِ، من خلالِ المشترياتِ الضخمةِ من الغازِ الروسيِّ.
ورغمَ كلِّ شيءٍ، لم يتخلَّ بوتينُ عمَّا يراهُ مصالحَ روسيا العليا؛ فبالرغمِ من أنَّه يواجهُ الكثيرَ من الإخفاقاتِ بحربِ أوكرانيا، لكنَّه ما زالَ يُصرُّ على تحقيقِ النصرِ من خلالِ الاستنزافِ، مُراهنًا على ميلِ الكفَّةِ لصالحِه في الأشهرِ الأخيرةِ وإنهاكِ القوى الغربيةِ الداعمةِ لكييفَ بالسلاحِ. وبعدَ هذهِ السنواتِ على بدءِ الحربِ، تواصلُ قواتُ روسيا التقدمَ في مواجهةِ قواتِ كييفَ التي تعاني من نقصِ العتادِ والذخيرةِ، ومن أبرزِ تصريحاتِه أنَّ "الجيشَ الروسيَّ لن يتراجعَ ولن يفشلَ"، كما أنَّ الحربَ مسألةُ "حياةٍ أو موتٍ" لموسكو.
ويفتخرُ بوتينُ بالدعمِ الدبلوماسيِّ الذي يحصلُ عليهِ من الصينِ، ويُشيرُ إلى أنَّ آسيا، وفي مقدمتِها الهندُ، تتهافتُ على النفطِ الروسيِّ، وأنَّ إفريقيا تعتبرُه حليفًا ضدَّ "الاستعمارِ الجديدِ" الغربيِّ. وها هو الرئيسُ الروسيُّ يعودُ، رغمَ صدمةِ العقوباتِ، للساحةِ الدوليةِ بعدَ أن امتصَّ الاقتصادُ الروسيُّ تلكَ الصدماتِ، رغمَ التضخمِ والاعتمادِ على الإنتاجِ العسكريِّ. وبينما يُراهنُ بوتينُ على صبرِ مواطنيهِ ونفادِ صبرِ أمريكا والغربِ، يراهنُ قادةُ الغربِ على إنهاكِ روسيا على المدى الطويلِ.
وفي المقابلِ، يقولُ المحللُ الروسيُّ فلاديميرُ إيغورُ إنَّ روسيا "تمرُّ بواحدةٍ من أدقِّ مراحلِها التاريخيةِ"، وخاصةً في ظلِّ ما يُطلقُ عليها بـ "حقبةِ الدولةِ الروسيةِ الوطنيةِ" التي بدأتْ بعدَ انهيارِ الاتحادِ السوفيتيِّ. وأضافَ إيغورُ أنَّه "رغمَ الثقةِ وعاملِ الاستقرارِ الذي يشهَدُه الداخلُ الروسيُّ حتى الآنَ، لا تزالُ الأزمةُ الأوكرانيةُ تُلْقِي بظلالِها على المشهدِ العامِ، من جرّاءِ الهجماتِ ضدَّ المدنِ الروسيةِ". ويؤكدُ إيغورُ أنَّ "بوتينَ حققَ لروسيا استقرارًا اقتصاديًّا، رغمَ العقوباتِ الغربيةِ، وتمكنتْ روسيا من الحفاظِ على مستوى الحياةِ العامةِ للمجتمعِ والفردِ".
ويبقى رغمَ كلِّ شيءٍ أنَّ الحربَ ليستْ نزهةً، ولقد جرَّبتْ واشنطنُ إغراقَ موسكو في مستنقعِ أفغانستانَ، والذي يرى كثيرٌ من الخبراءِ أنَّه كانَ أحدَ أهمِّ أسبابِ سقوطِ الاتحادِ السوفيتيِّ. وقيلَ أنَّ الرئيسَ الأمريكيَّ الأسبقَ باراك أوباما طالبَ المؤسساتِ الأمريكيةَ بأن يدعوا روسيا تغوصُ مع بشارِ الأسدِ في الحربِ الأهليةِ السوريةِ، ومن بعدِ ذلكَ لعبَ الرئيسُ السابقُ جو بايدنُ والنخبةُ الأمريكيةُ والأوروبيةُ "اللعبةَ ذاتَها"، ولكنَّ هذهِ المرةَ من خلالِ "مستنقعِ أوكرانيا".
وعلى الأرجحِ، هناكَ تحدياتٌ كبيرةٌ في انتظارِ قيصرِ روسيا، وفي مقدمتِها التحدي الأمنيُّ الخطيرُ للحربِ الأوكرانيةِ، ومنعُ هجماتِ المسيّراتِ على موسكو والمدنِ الروسيةِ. وأغلبُ الظنِّ أنَّ "مستنقعَ أوكرانيا" أخطرُ اختبارٍ لبوتينَ، وربما يرسمُ مصيرَه. ولكنْ في المقابلِ علَّمنا التاريخُ أنَّ الروسَ دومًا يخرجونَ منتصرينَ، ولو بعدَ حينٍ، ولو بثمنٍ باهظٍ. وحتى إذا رحلُ بوتينُ، فإنَّ رؤيتَه لن ترحلَ.