مصر .. من القوة الناعمة إلى القوة الكامنة

21-10-2025 | 11:04

أُراهن أن جموع المصريين، وجموع الشعوب الموالية للسلام حول العالم، قد بدأت يومها في الثالث عشر من أكتوبر بأن تدعو للرئيس عبدالفتاح السيسي بالتوفيق، فأمامه يومٌ عصيبٌ ومُعقَّدٌ ويقع الكثيرُ على المحك، وها هو قد مر اليوم المنتظر لقمة شرم الشيخ لعقد اتفاق السلام في غزة، بعد مفاوضاتٍ مُستفيضةٍ، مهمةٌ بدت كحلمٍ بعيدٍ، صعبةٌ إلى درجة المستحيل، كيف لا ومصر المضيف لعددٍ غير مسبوقٍ من الرؤساء والقادة والملوك ورؤساء الوزراء ووفودٍ رسميةٍ رفيعةٍ، وزيارةٌ تاريخيةٌ لم تكن على أجندة الرئيس الأمريكي ولا في حسبان أي طرفٍ؛ فقبل يومين من هذا التاريخ لم يكن أحدٌ ليتوقع أن يهبط الرئيس ترامب في مطار شرم الشيخ متحمسًا ومرحبًا ومساندًا لكل مساعي السلام المصرية الحكيمة، والأكيد أن هناك الكثير من المياه يجري تحت النهر، وأن المسئولية كُبرى، اكتمال الاتفاق الذي تسعى أطرافٌ أخرى لعدم ظهوره للنور، بل والمراوغة بكل الأساليب لتحجيمه وإفشاله ومنعه من التحقق، ولكن، كان ربك قديرًا.

لقد باغتت مصر العالم في تلك القمة، كما باغتته في محطاتٍ كثيرةٍ من تاريخها. وجوهٌ مصريةٌ من الرئاسة والمخابرات والخارجية كانت تعمل في الخفاء، تجمع الخيوط المتشابكة بعقلٍ باردٍ وإرادةٍ صلبةٍ، حتى تحول المستحيل إلى اتفاقٍ واقعيٍّ ساعٍ عن حقٍّ لوقف نزيف الدم وإعادة الدبلوماسية قوتها في التأثير على الأحداث. احتفى العالم بالقاهرة، وتحدث القادة عن دهشتهم من التحرك الهادئ والمنضبط الذي جمع بين الصبر والدقة والقدرة على الإقناع.

بالنسبة لمصر، لم يكن ذلك استثناءً، بل استمرار لطريقها ودورها التاريخيِّ، العمل بصمتٍ، والتأثير من العمق، والتمسك بموقعها كقوة توازن لا صدامٍ.

القوة، كلمةٌ لم ولن تمر مرور الكرام، قد تحمل تهديدًا أو تفاخرًا أو تضامنًا وحكمةً، من يُدرك جوهرها فقد أدرك كيف يتحقق ميزان الأمم ومرآة التاريخ. هي القدرة على الفعل، وعرَّفها الفلاسفة بأنها الإرادة حين تتحول إلى أثرٍ ملموسٍ، أما في واقعنا الحديث فهي التوازن الدقيق بين الحكمة والعزم، بين الصمت الذي يسبق القرار، والفعل الذي يُغني عن البيان.

في السنوات الأخيرة دومًا كان الحديث عن القوة الناعمة التي تصوغ النفوذ بالفكر والثقافة، ومع تَعقُّد الأمور في غزة تطرقت بعضُ أصواتٍ إلى القوة العسكرية تعبيرًا عن الحزم والردع، صوتان متناقضان ومتعاكسان في الاتجاه والمفهوم، حتى وإن جمعهما هدفٌ واحدٌ وهو حماية مقدرات الوطن وهيبته وأراضيه، وقد لا يكون الاختيار الناعم كافيًا، وقد يكون الخيار العسكري قاسيًا ومخيفًا، لذا قضت الحكمة بأن يعلو صوتٌ ثالثٌ فوقهما، ليعبر عُنُق الأزمة بأدواتٍ أكثر عمقًا واتزانًا وهو صوت القوة الكامنة، تلك التي تتضافر فيها كل عناصر القوة معًا في ضربةٍ ذكيةٍ محسوبةٍ غير قابلةٍ للتفاوض أو التراجع، قوةٌ تفرض وضعًا ومسارًا ومخرجًا وهدفًا مشتركًا.

لينصت الجميع لصوتٍ حكيمٍ قادرٍ على تحقيق الوعود، ويحسم المواقف دون استعراضٍ، هي القوة التي لا تحتاج إلى إعلانٍ، ولا مديحٍ، فقط انصت وراقب واحصد ما حققه رجال الوطن من مكاسب كانت بمثابة حلمٍ بعيد المنال.

فالقوة ليست في إشعال الحروب، بل في القدرة على إنهائها بشرفٍ. ليست في فرض الهيمنة، بل في حفظ التوازن، وليست في الصخب، بل في القدرة على توجيه الصمت ليصيغ موقفًا صلبًا دون حيادٍ.

ففي السياسة، ليست القوة لمن يملك السلاح، بل لمن يعرف متى يؤمِّنه، ويستخدمه، وهو سرُّ مصر التي تمزج بين صلابة القرار السياسي ومرونة الدبلوماسية الهادئة، إنها الدولة التي تفهم أن قوتها لا تنفصل عن ثقافتها، وأن ثقافتها لا تكتمل من دون أمنها، وأن الاثنين معًا يصنعان معادلة الحضور والاستقرار.

هكذا قوة مصر، كامنةٌ، ليست صاخبةً، ولا تبحث عن الضوء، لكنها حاضرةٌ بثباتٍ يُدركه من يتأمل المشهد دون انفعالٍ. تُقاس قوتها بما تحققه وبما تمنحه من طمأنينة في منطقةٍ لا تعرف السكون، هكذا يُفرض الاحترام وليقف الخلق ينظرون جميعًا كيف تبني مصر قواعد المجد والتاريخ.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
معًا.. لكل الدنيا

لم تتملكنى كل تلك المشاعر دفعة واحدة من قبل حماس، تساؤل، رهبة، توجس، سعادة، حنين، امتنان، وانطلاق.. كلها تكاد تتوازى وتناطح بعضها بعضاً، كيف لا وأنا أخطو بخطوات هادئة نحو مساحة استثنائية