في نوفمبر الماضي، وخلال زيارتي إلى بكين، وجدت نفسي أمام مشهدٍ لا يشبه أي مكان آخر في العالم. كنت في مركزٍ متطور لإدارة العاصمة الصينية، حيث تتقاطع الشاشات العملاقة في عرضٍ بانوراميٍّ مذهلٍ: حركة المرور تُراقب لحظة بلحظة، واستهلاك الطاقة يُقاس بالثواني، وجودة الهواء تُرصد عبر آلاف الحساسات، ومراكز الإسعاف والإنقاذ تستعد قبل أن يُطلب تدخلها. وفي محطات القطار السريع، لم تكن إجراءات الأمن مُرهقةً أو مرئيةً كما في مدن أخرى حول العالم. وكانت الكاميرات الذكية تلتقط الوجوه في لحظة، وتقارنها بملايين الصور، وتسمح بالمرور في سلاسةٍتشبه جريان الماء.
كل شيء كان يتحرك بانسجام مذهل، كأن المدينة العملاقة كائنٌ حيٌ تدير حواسه منظومةُ ذكاءٍ اصطناعيٍّ متكاملةٌ. ولم يكن هناك توترٌ أمنيٌّ، بل انسياب منظم، يوحي بأن الأمن "مستتب" تمامًا.
منذ قرونٍ بعيدة، كانت الفلسفة الصينية ترى أن الأمن ليس فرض النظام بالقوة، بل تحقيق التوازن بين السلطة والمعرفة. فكونفوشيوس أكد على أن "الانسجام هو أساس النظام"، و"أن الدولة التي تعرف نفسها تعرف طريقها". وفي هذا السياق، ولدت فكرة الأمن في الصين بوصفها "حالةَ وعيٍ جماعيٍّ" لا مجرد وظيفة شرطية.
وحين دخل العالم الثورة الصناعية الرابعة، رأت بكين في الذكاء الاصطناعي وسيلةً لضبط الإيقاع الاجتماعي، لا لإسكات الأصوات، فجمعت بين "حكمة التنين القديم" و"دقة الخوارزميات الحديثة". وبهذا المزيج بين الروح الشرقية والعقل الرقمي، بنت الصين تجربتها الخاصة في إدارة الأمن عبر الفهم لا السيطرة.
اليوم، حين تسير في شوارع بكين أو شنغهاي أو هانجتشو أو شنتشن، تشعر أنك في مدنٍ تُفكر. فالمباني هناك ليست كتلًا من الإسمنت والزجاج، بل كيانات رقمية تتنفس البيانات، وتدير نفسها عبر أنظمة ذكية. وكاميرات المراقبة ليست عيونًا تُراقب، بل أدوات تفهم، والمستشعرات تعمل كخلايا عصبية في جسد الوطن الكبير.
وفي قلب كل مدينة صينية، يوجد مركزُ قيادةٍ رقميٌّ يشبه العقل البشري، يقرأ الواقع في الزمن الحقيقي، ويصدر تعليماته كما يفعل القائد الميداني. وهذه المراكز لا تعمل بمعزل عن الإنسان، بل تكمله. فهي تحلل البيانات من المرور والمستشفيات والطوارئ، لتصدر استجابةً فوريةً تحفظ السلامة وتبقي الإيقاع متوازنًا.
وفي هذا السياق، تعد أنظمة "العقل الحضري" مثل "City Brain" و"Urban Intelligent System" تطبيقات بارزة لهذه الرؤية. فهي تجمع بين الكفاءة التقنية والوعي الاجتماعي، لتدير حركة المدن الكبرى بذكاء يسبق الحدث.
فحين يقع حادث مرور أو خطر بيئي، على سبيل المثال، تتحرك الخوارزميات لتحليل البيانات وتوجيه الإنذار قبل أن تصل الأزمة إلى البشر. إنه نموذجٌ للأمن الوقائي، حيث تتدخل الدولة قبل أن يبدأ الخطر.
وفي المجال الصحي، تُستخدم تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد انتشار الأمراض والتنبؤ بالموجات الوبائية قبل حدوثها. وفي البيئة، تُحلل الخوارزميات جودة الهواء والمياه لتوجيه السياسات المحلية نحو التوازن المستدام. أما في الحياة اليومية، فقد أصبح بإمكان المواطن الصيني التواصل مباشرةً مع السلطات عبر منصات رقمية ذكية تسجل الملاحظات وتعالجها فورًا، مما يعزز الشفافية والثقة.
وحتى الأمن الشخصي أصبح أكثر سلاسةً وإنسانيةً. فبدلًا من الدوريات التقليدية، تنتشر روبوتات الأمن المزودة بخوارزميات التعرف على الوجوه في محطات المترو والمطارات، ترشد المارة وتبلغ عن المخاطر دون تدخل بشري مباشر. وهذه الآلات ليست بدائل للإنسان، بل امتداد لعقله الجماعي في حماية النظام العام.
إن ما تقدمه الصين اليوم ليس نظامًا أمنيًا بالمعنى التقليدي، بل رؤيةٌ حضاريةٌ تعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع. فالذكاء الاصطناعي لا يُستخدم لتقييد حركة المواطنين، بل لفهمها؛ ولم يُزرع في الشوارع ليراقب الناس، بل ليراقب من أجلهم. بهذا المعنى، يصبح الأمن في الصين نتاجًا للفهم لا الخوف، وللوعي لا السيطرة.
وهكذا، تقدم الصين للعالم نموذجًا فريدًا في كيفية جعل التكنولوجيا أداة لحسن إدارة الدولة، لا مجرد وسيلة للهيمنة. فحين تمتزج الخوارزمية بالحكمة، والعقل بالضمير، تولد تجربة لا تشبه إلا نفسها — تجربة تعلم العالم أن الأمن الحقيقي لا يقوم على الخوف من الفوضى، بل على الإيمان بأن المعرفة هي الطريق إلى حماية المجتمع من الانقسام والصراع.
إن ما تبنيه الصين اليوم ليس مجرد نظام أمن رقمي، بل فلسفةُ حكمٍ جديدةٌ ترى في الذكاء الاصطناعي امتدادًا للطبيعة البشرية، لا نقيضًا لها. فالذكاء الاصطناعي شريكٌ في الحكم، لا مجرد أداة في يد الحاكم. والخوارزميات لا تراقب الناس فقط، بل تراقب جودة الهواء، ونسبة التلوث، وحركة الأمطار، وتُنبئ بانتشار الأمراض قبل وقوعها. وفي لحظة الخطر، تتحرك أجهزة الدولة كوحدة واحدة: الإسعاف، والشرطة، والدفاع المدني، والمستشفيات، وكلها متصلة بشبكة واحدة تُعرف باسم "منصة القيادة العامة"، التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي.
وذلك ليس أمنًا بالمعنى التقليدي، بل تنظيمُ حياةٍ بأكملها، وكأن الدولة قررت أن تجعل التكنولوجيا أداة لخلق حالة انسجام دائم بين الدولة والمواطن، وبين النظام والحرية.