الانتخابات التشريعية العراقية... شواهد وتطلعات

20-10-2025 | 13:04

كل يومٍ، ينهضُ المشهد العراقي كطائرٍ من رمادٍ قديمٍ، ليؤكد — بما لا يترك لليقين ظلًّا من شكٍّ — أن الدولة قادرةٌ على أن تمسك بجمر الملفات الملحة، وأن تعبر أزمنة العسرة بخطى الواثقين، فتعيد إلى الذات العراقية نبضها الأول، وتسترد من بين أنقاض الحروب وفتن السنين روحها التي لا تموت.

ولم يكن لهذا النهوض أن يكون لولا بصيرةٌ عميقةٌ بأوجاع الوطن، ووعيٌ متجذرٌ في تربة حضارةٍ عريقةٍ علّمت الدنيا أبجديتها الأولى. لقد أدركت الأجيال أن سر البقاء كلمةٌ واحدةٌ: الوحدة. فحين التفَّ الجميع حول الوطن، تحول الحلم إلى فعلٍ، والفعل إلى واقعٍ يتنفس على الأرض.
ومن هذا التلاحم، بدأ الحراك — الشعبي والحكومي معًا — في كل الاتجاهات، بخطةٍ شاملةٍ تتسع للمستقبل. فجاء الإصلاح الاجتماعي بملامحه الجديدة، وتقدمت حقوق الإنسان إلى صدارة المشهد، وانطفأت نيران الطائفية، وتهاوت جدران الفرقة بين أبناء الشعب الواحد.

وتصدى العراق للفساد كما يتصدى الجسد لسمٍّ دخيلٍ، واستعاد استقراره السياسي، وأطلق مبادراتٍ خضراء لمداواة جراح البيئة، واستثمر في ضوء الشمس والرياح، وجعل من تحسين الخدمات العامة واجبًا لا مِنةً.

ولأن الأوطان لا تُبنى بالصدفة، ولا تُصان بالمكاسب وحدها، تأتي الانتخابات التشريعية المقبلة — في الحادي عشر من تشرين الثاني/نوفمبر القادم — لا بوصفها استحقاقًا دستوريًا فحسب، بل كعلامةٍ فارقةٍ في رحلة العراق نحو ترسيخ ما تحقق من إنجازاتٍ، وانتزاع مكانته من بين براثن العتمة إلى فضاء النهوض.

وفي ظل إقليمٍ تعصف به التوترات والصراعات الجيوسياسية، يبقى العراق واقفًا على عتبةٍ دقيقةٍ من التاريخ، يقاوم ألا يكون ساحةً للآخرين، بل فاعلًا في رسم ملامح الغد، متمسكًا بحقه في أن يكون صوته حرًّا، وخياره نابعًا من إرادة شعبٍ أدرك أن الديمقراطية ليست صندوقًا فحسب، بل وعدٌ بالكرامة، وتجسيدٌ لنبض وطنٍ يريد أن يحيا كما يليق بتاريخه.

وللحق نقول — كما بدا جليًّا للعراق، ولمن يشبهه من الدول التي ما زالت تمسك بزمام سيادتها وقرارها — إن أنظارًا كثيرةً تترصد المشهد، تلاحق الصورة لا حبًّا بها، بل انتظارًا لعثرتها. عيون لا تتمنى الخير، بل تتوقع السقوط، كأن فشل التجربة العراقية سيكون انتصارًا لماضٍ يريد أن يعود من رماده، ماضٍ أثقل البلاد بحروبه وأوهامه، وأطفأ لسنواتٍ ضوء الديمقراطية الوليدة في هذا المحفل الشعبي النابض.

هذا الترقب المسموم لم يأتِ من فراغٍ، بل استند إلى ما سبق الانتخابات من مواقفٍ هزت السكون السياسي في البلاد، وأبرزها دعوة زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، إلى مقاطعة الانتخابات، وهي دعوةٌ لم تكتفِ بالقول، بل ترجمتها الأيدي إلى فعلٍ في شوارع مدينة الصدر شرقي بغداد، حيث غابت اللافتات الانتخابية، وتحولت الجدران إلى صمتٍ ثقيلٍ يقرأه المارون كبيانٍ مكتومٍ.

وفي تغريداته على منصة "إكس"، كتب الصدر كمن يخاطب ضمير الوطن: "من شاء فليقاطع، ومن شاء فليتخذ شهوة السلطة سبيلًا"، ثم أتبَعها بنداءٍ آخر أكثر مرارةً وصدقًا: "الحقُّ لن يُقام، والباطلُ لن يُدفع، إلا بتسليم السلاح المنفلت للدولة، وحل الميليشيات، وتقوية الجيش والشرطة، وضمان استقلال العراق وعدم تبعيته، والسعي الجاد نحو الإصلاح ومحاسبة الفاسدين".

وهنا، لا بد من وقفةٍ تتجاوز الانفعال إلى البصيرة، وقفةٍ تعيد النظر إلى المشهد العراقي بعينٍ مجردةٍ من الانحياز، متأملةً في ما يعتمل داخله من تناقضاتٍ وتقاطعاتٍ، وما يحيط به من أطرافٍ متشابكةِ المصالح، لكلٍّ منها رؤيته ومطامحه التي قد تلتقي مع إرادة العراق أو تناقضها في لحظةٍ من لحظات الحساب.

إن في الأفق الأمريكي ظلًّا طويلًا لا يغيب، يمتد من بغداد حتى ضفاف المتوسط، يحمل هواجس الخوف من التمدد الإيراني، ويمسك بخيوط أمن الطاقة وتدفقها، كأنه يراقب نبض المنطقة من خلف زجاجٍ باردٍ لا يرف.

وفي المقابل، تسعى إيران — بجسارتها القديمة وشبكاتها المتشعبة — إلى أن تحافظ على حضورها العقائدي والسياسي، داخل البرلمان وخارجه، مُحاوِلةً أن تُنتج أغلبيةً لا تعاديها، بل تمنحها نفسًا في قلب القرار، ونفوذًا مؤسسيًا يرسخ استقرار حدودها ويضمن استمرار تأثيرها في مفاصل الدولة.

أما تركيا، فتمضي في رهاناتها على العراق بوّابةً نحو الجنوب، تبحث عن دورٍ أكبر في الإقليم عبر مشاريع التنمية والربط البري الممتد إلى المتوسط، وتتابع في الوقت نفسه ملاحقة حزب العمال الكردستاني، مستندةً إلى ورقة المياه في دجلة والفرات كوسيلة ضغطٍ لا تخلو من دهاءٍ سياسيٍّ.

وعلى الجانب الآخر، الخليج يتطلع إلى توثيق الصلات، عبر استثماراتٍ مشتركةٍ ومشاريع ربطٍ كهربائيٍّ تعيد للعراق مكانته في شبكة المصالح الاقتصادية الإقليمية.

فيما تبقى الرؤية المصرية أكثر وضوحًا وثباتًا، إذ تنحاز بصدقٍ لسيادة العراق وحقه في أن ينهض ويستعيد موقعه قوةً إقليميةً فاعلةً، لا تابعةً ولا تابعةً لأحدٍ، وقد تُرجمت هذه الرؤية إلى مبادرات تعاونٍ حقيقيةٍ في مختلف المجالات، تُسهم في بناء العراق بناءً قويماً، يطوي صفحة الماضي ويبدأ أخرى أكثر إشراقًا.

ومنذ انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وتكليف رئيس وزراء وطنيٍّ صادقٍ في عزيمته، ومعه رجالٌ حملوا وجع البلاد على أكتافهم، بدأت ملامح التحول تظهر — في التنمية، وفي السياسة، وفي التوازن الإقليمي والدولي — كأن العراق يكتب فصله الجديد بمداد الإرادة لا بالحبر.
إن الرهان الحقيقي اليوم هو على وعي الشعب، ذلك الوعي الذي يرفض العودة إلى ظلمات العقود الماضية، يوم لم تكن للدولة ملامح، ولا للعدالة موطئ قدمٍ. فالعراق الذي نهض من تحت ركام الحروب لن يقبل أن يُستدرج إلى الوراء، والشعب الذي ذاق مرارة الانقسام أدرك أن وحدته هي خلاصه.

فلتكن صناديق الاقتراع إذن مرآةً لوعي العراقيين وتطلعاتهم، وسبيلًا إلى مزيدٍ من التوازن الداخلي الذي يثمر نجاحاتٍ جديدةً — في مكافحة الفساد، وحصر السلاح بيد الدولة، ودفن الطائفية والعصبية في مقابر الماضي المنبوذ — حتى يولد من رحم التجربة تمثيلٌ متوازنٌ وسلطةٌ سياسيةٌ قويةٌ، تُعبّر عن إرادة العراقيين جميعًا، على قلب رجلٍ واحدٍ، نحو وطنٍ يتّسع للجميع.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة