مصر لن تقف مكتوفةَ الأيدي أمام النهج غير المسئول الذي تتبعه إثيوبيا تجاه نهر النيل. هكذا صرَّح الرئيس عبد الفتاح السيسي خلال كلمته في أسبوع القاهرة للمياه. في لحظة دقيقة من تاريخ المنطقة، جاء خطاب الرئيس عبدالفتاح السيسي الأخير ليُعيد إلى الواجهة أخطر ملف في معادلة الأمن القومي المصري: قضية المياه وسد النهضة الإثيوبي، حيث أكد في حديثه: «اختارت مصر طريق الدبلوماسية في أزمة سد النهضة، والخيار لم يكن ضعفًا أو تراجعًا؛ بل تعبيرًا عن قوة الموقف، ونضج الرؤية».
الخطاب لم يكن مجرد موقف سياسي، بل رسالةً متكاملةً إلى الداخل والخارج، تؤكد أن الأمن المائي لمصر خط أحمر وأن الدولة المصرية، رغم التزامها بضبط النفس ودبلوماسية الصبر، لن تسمح بالمساس بحقوقها التاريخية في نهر النيل.
الرسالة حملت توازنًا نادرًا بين الحزم والاتزان، بين لغة الردع ولغة القانون. فبينما تواصل أديس أبابا ملء خزان السد للعام الخامس على التوالي، متجاهلةً الدعوات لاتفاق قانوني مُلزم، جاء الخطاب المصري ليُذكِّر بأن الهدوء لا يعني التنازل، وأن مصر لا تُهدد لكنها قادرة على الرد في الوقت والمكان المناسبين.
في هذا الإطار، أعادت القاهرة تحريك اتصالاتها الإقليمية والدولية، وسط دعم عربي وإفريقي متزايد لموقفها القائم على احترام القانون الدولي ومبدأ «عدم الإضرار بالآخرين».
هذه التطورات الأخيرة تُعيد إلى الأذهان مسارًا تفاوضيًا امتد لأكثر من عقد كامل منذ أن أعلنت إثيوبيا في عام 2011 عن مشروع سد النهضة العملاق بسعة تخزينية تصل إلى 74 مليار متر مكعب، على النيل الأزرق الذي يَمُد نهر النيل بنحو 85% من مياهه. منذ تلك اللحظة، دخلت المنطقة في أزمة ممتدة بين ثلاث دول ترتبط بمصير مائي واحد: مصر والسودان وإثيوبيا.
ولأن مصر تعتمد على النيل في أكثر من 97% من مواردها المائية، فإن أي تلاعب بتدفق مياهه يعني تهديدًا مباشرًا لحياة أكثر من 104 ملايين مواطن يعيشون في بيئة قاحلة لا تتجاوز فيها حصة الفرد 550 مترًا مكعبًا سنويًا، أي أقل من نصف خط الفقر المائي العالمي.
ورغم حساسية الملف، لم تلجأ مصر إلى التصعيد أو الخطاب العدائي، بل اختارت طريق الدبلوماسية الهادئة. في عام 2015 وقَّعت على اتفاق إعلان المبادئ في الخرطوم لتؤكد التزامها بالتعاون واحترام حق إثيوبيا في التنمية، شرط ألا يكون ذلك على حساب حياة الآخرين. لكن أديس أبابا استغلت حسن النية المصرية لتفرض واقعًا جديدًا عبر الملء الأحادي المتكرر دون اتفاق أو تنسيق، مما دفع القاهرة إلى التأكيد مرارًا على أن مبدأ الاستخدام المُنصف والمعقول للمياه لا يتجزأ، وأن الأنهار الدولية ليست ملكًا لدولة واحدة.
في المقابل، عززت مصر أدواتها الداخلية لحماية أمنها المائي، فبدأت تنفيذ خطة قومية تمتد حتى عام 2037، تضمنت مشروعات غير مسبوقة في معالجة المياه وبَطَانة الترع والتحلية. استثمرت الدولة أكثر من 160 مليار جنيه في مشروعات الري، وأنشأت 134 محطة لمعالجة وإعادة استخدام المياه، وأطلقت في مدينة العلمين أكبر محطة تحلية في الشرق الأوسط بطاقة تتجاوز 150 ألف متر مكعب يوميًا، ضمن خطة لرفع الطاقة الإجمالية إلى 8 ملايين متر مكعب يوميًا بحلول عام 2030. هذه الأرقام لا تعكس فقط جدية الدولة، بل تكشف عن إدراك إستراتيجي بأن الأمن المائي لا يُصان بالشعارات بل بالفعل الملموس.
إن مصر اليوم تخوض معركتها بهدوء العقل وقوة العزيمة. فبينما تُمارس إثيوبيا سياسة فرض الأمر الواقع، تراهن القاهرة على أدوات القانون الدولي والدبلوماسية الوقائية، مع احتفاظها بكامل خيارات الردع السيادي.
وقد عبَّر الرئيس السيسي بوضوح عن هذه المعادلة حين قال إن مصر لا تسعى إلى صراع لكنها لن تقبل فرض أمر واقع يهدد وجودها. تلك المعادلة الدقيقة هي ما يمكن تسميته بـ«دبلوماسية الصبر وقوة الردع»؛ حيث تجمع الدولة بين التحكم في الخطاب والقدرة على الفعل، وبين حكمة السياسة وحزم السيادة.
لكن جوهر الأزمة لا يزال قانونيًا قبل أن يكون سياسيًا. فبينما تستند القاهرة إلى قواعد القانون الدولي التي أرستها اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن الأنهار الدولية، والتي تضمن مبدأي «الاستخدام المُنصِف» و«عدم التسبب في ضرر جسيم»، تُصر أديس أبابا على تبرير مواقفها بمفهوم «السيادة المطلقة»، وهو منطق يتناقض مع أبسط قواعد إدارة الموارد المشتركة. هذه الرؤية الأحادية لا تُهدد فقط مصر والسودان، بل تنسف فكرة التعاون الإفريقي ذاتها التي طالما نادت بها القارة كسبيل للتنمية المشتركة.
خطاب الرئيس الأخير جاء إذن ليُعيد التوازن إلى المشهد، مؤكدًا أن مصر لا تطلب أكثر من العدالة، ولا تقبل أقل من الحق. إنها دولة تدرك أن الحفاظ على النيل هو حماية للوجود الوطني، وأن الدفاع عن الماء هو دفاع عن الحياة نفسها. فمنذ فجر التاريخ، لم يكن النيل لمصر مجرد نهر، بل هويةً حضاريةً وشريانَ سيادةٍ.
وهكذا تواصل القاهرة إدارتها لأخطر ملفاتها المائية بمعادلة فريدة: صبر إستراتيجي لا يَنفد، وقوة ردع لا تُستفَز، ورؤية قانونية لا تُساوَم. وفي النهاية، تبقى رسالتها واضحة كما لخَّصها الرئيس السيسي في عبارته الخالدة: «التعاون من أجل التنمية… لا الصراع من أجل البقاء».
* نقلا عن الأهرام إبدو