حكايات من الواقع: سكرة المال والأعمال..!

20-10-2025 | 12:46
حكايات من الواقع سكرة المال والأعمالأرشيفية
خالد حسن النقيب

ما أقسى ذلك الإحساس المدمر يجتاحنى ليل نهار فأنا القاضى والجلاد فى ذات الوقت أعذب نفسى بنفسى على ذنب لم أكن متعمدة اقترافه ولعل  الإنسان الذى عاش الدنيا ثملا بشهوة المال وسكرة استثماره بكل السبل الملتوية عندما يواجه  نفسه قد تعجزه الصدمة عن استيعاب ما مضى من حياته خيرا كان أو شرا و لكنه يشعر بدائرة من الخوف تحاوطه و تضيق من حوله حتى يختنق و لولا رحمة من الله لقضت عليه .

موضوعات مقترحة

و دائرة اختناقى تحوى أمورا كثيرة تملأ صدرى ما بين اليأس من الوصول إلى طاقة نور تتغير بها حياتى و الرجاء فى أن أتخلص من كل أدرانى و آثامى .

لم أكن قبل أيام قليلة أحفل بشىء من هذا فقد كنت أعيش حياتى كيفما يتفق تحكمنى المصلحة فى كل شىء حتى مررت بمحنة زلزلتنى ووضعتنى أمام نفسى كى أواجهها بكل القبح الذى عشته معها سنوات عمرى التى لم ينقض منها أكثر من ثلاثة عقود هى كل عمرى .

بدأت محنتى عندما تسببت خطأَ فى موت طفلة بريئة كانت تلهو فى الشارع اندفعت أمام سيارتى بشكل مفاجىء و لم أدر إلا و قد اصطدمت بها .

توقفت و حملتها إلى المستشفى و تكفلت بكافة النفقات و سلمت نفسى للشرطة و مضت إجراءات المحاكمة بالشكل الذى أنصفنى فلم أقصد قتلها و تم تصنيف الواقعة قتلا خطئا و انتهى الأمر بالتعويضات المادية التى قررتها المحكمة .

و لم يكن أمر المال يقلقنى فقد كنت متيسرة الحال و كنت مشفقة بالفعل على أسرة الطفلة و حاولت أن أسترضيهم بأى شكل .

لم ينته الأمر على هذا النحو فقد تبدلت حياتى إلى النقيض .

افترشت عيونى السهاد قلقا و رعبا حتى أن فكرة النوم باتت أمرا مزعجا لى مثيرا للخوف فبمجرد خلودى للنوم تأتينى الطفلة فى منامى تطاردنى , تحيطنى من كافة الاتجاهات حتى أشعر بالاختناق فأنتفض من فراشى فزعة مذعورة تتصاعد نبضات قلبى حتى يكاد ينفجر فى صدرى .

عبثا حاولت أن أتخلص من هذا الحلم المزعج و الذى كان يزيد من رعبى من هذا الكابوس أن الطفلة التى تأتينى فى الحلم ليست هى التى صدمتها بسيارتى و لكنها أنا فى طفولتى و كأننى صدمت نفسى و قتلتنى مثلما قتلت الطفلة الصغيرة .

كدت أجن مما ألاقيه كل ليلة و عبثا حاولت التخلص من كل ذلك حتى نصحنى الأصدقاء باللجوء لأحد الأطباء النفسيين و خضعت لجلسات علاج نفسى كثيرة و استسلمت لعقاقير المهدئات كى أستطيع النوم و لكن شيئا من حياتى المتوترة لم يعد إلى طبيعته السابقة .

أنا أدرك من أمر نفسى ما قد أخجل من ذكره فقد عشت حياتى السابقة بلا كنترول أخلاقى و ليس هذا يعنى انحلالا و لكنى أقصد اختياراتى فى العمل فأنا سيدة أعمال كل شىء عندى يخضع لحسابات المكسب و الخسارة و تعلمت منذ البداية أن الـ " بزنس " لا قلب له و لا ضمير أيضا و قد كنت محترفة فى صراعاتى بالسوق أتغلب على خصومى بأي و وسيلة ممكنة و كنت أؤمن بالنظرية الميكيافلية التى تنظر الحياة فلسفيا بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة و كما كنت متميزة فى دراستى بكلية الاقتصاد و العلوم السياسية و تخرجت فيها من أوائل الدفعة كنت أيضا سيدة أعمال لها ثقلها فى السوق و لى من الخبرة رغم صغر سنى ما يساندنى فى عملى .

كانت حياتى تسير كالقطار الذى لا يتوقف فى محطات غير أنه يجرى على قضيبين فى اتجاه واحد , يعرف مساره لا ينثنى و لا يتحول حتى وقعت هذه الكارثة بقتل طفلة تحت عجلات سيارتى .

على الرغم من أنه حادث عرضى تسبب فى قتل خطأ إلا أنه كان نقطة محورية فى تاريخ حياتى كلها فأنا أم لولد فى مثل سن الطفلة القتيلة و أشعر كيف هو وقع موت الصغيرة على قلب أمها و رغم أنى لم أعش حنان الأمومة الطبيعى لانشغالى عن بيتى و ابنى وزوجى إلا أننى فى النهاية أم و أعرف مرارة امرأة ثكلى فى فلذة كبدها .

و ربما كانت هناك حكمة أجهلها من أمر ذلك الحادث و تداعياته المفزعة فى حياتى كى أفيق من سكرة المال و الأعمال و اصطياد زلات الناس و استثمارها و قلب الحقائق و اللعب على كل الحبال .. أرادت الأقدار بى تبدلا فى الأحوال كى أشقى بكل ذلك و أتعذب به .. هكذا قال لى الطبيب النفسى و شرح لى أن الطفلة البريئة التى تطاردنى فى كابوس منتصف الليل كل يوم ما هى إلا ضميرى الذى استيقظ من وقع صدمة نفسية حادة عندما صدمت طفلة صغير بسيارتى .

كنت أتخيل أن فهمى لحالتى سوف يعيد إلى رباطة جأشى و استقرارى النفسى و لكن الحالة النفسية من سىء لأسوأ فلا الكابوس غادرنى و لا نيران الخوف و الفزع قد خبت و انطفأت فى صدرى .

أمضيت قرابة العام فى تلك المحنة و جاءنى خاطر أن أسافر إلى الأراضى الحجازية معتمرة و لعلى عندما أغتسل بماء زمزم و أتطهر فى بيت الله العتيق أتخلص من كل مخاوفى و كوابيسى .

اصطحبت زوجى و سافرنا و لا أستطيع التعبير أو وصف كم الراحة النفسية التى استشعرتها هناك و لأول مرة منذ شهور طويلة كنت أنام ملىء جفونى قريرة العين مستقرة النفس و ربما لم أرتاح أو أتصالح مع نفسى فى حياتى كلها مثل تلك الفترة التى عشتها فى رحاب مسجد الرسول الكريم صلى الله عليه و سلم و رحاب الأراضى الطاهرة بمكة فى البيت العتيق .. كانت أجواء الرحمة و المغفرة تعبق المكان عطرا و عبيرا إيمانيا خاصا و فى جو من هذه الروحانيات نسيت كل شىء إلا من وجودى فى رحاب ربى و رحمته أستغفره و أتوب إليه أغتسل بدموعى ندما و حسرة فتتطهر الروح قبل الجسد .

و مضت أيام العمرة و عدت لبلدى و لحياتى طامعة فى استقرارى الذى حصلت عليه و معاودة عملى و حياتى الطبيعية و لكن كانت المفاجأة التى تجمدت لها فقد عاود الكابوس مطاردتى و نفس الطفلة التى ترتدى ملامحى هى نفسها من تخنقنى و كأن شيئا من مصالحة النفس و تطهرها لم يحدث خلال العمرة .

أكتب إليك و اليأس قد تملكنى تحيطنى ظلمة خانقة بعد أن ضاع طوق نجاتى الوحيد و بات الأمل فى بصيص نور من حل مستحيل .

أسطر كلماتى و أواجه نفسى بما فيها من سوء كما واجهتها فى رحاب الكعبة لعلى أقتل فيها ما يعيدنى للوراء و لكن خيطا من رجاء فى عفو الخالق عز و جل مازال ينبض فى قلبى أتمسك به تمسك غريق يتشبث بالحياة لعله ينجو يوما ما ولا يعاودنى ذلك الكابوس النرعب.

(س. ع)

أنا معك فى قسوة ما تتعرضين له وجلدك لذاتك تعذبينها بلا رحمة ولكن إرادتك القوية فى عقاب الذات هى ذاتها طوق النجاة من الإثم الأعظم الذى يطاردك ولنا فى قول الله عز وجل بصيص أمل ونور .. قل يا عبادى الذين أسرفو على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله و أنت يا سيدتى ممن شملهم الله برحمته إن شاء الله و دلالات ذلك كثيرة فلا تركنى لليأس يأكل فى نفسك الأمل فى عطف الله و رحمته و لولا أن الله يحبك لخير فيك لما اختصك برسالة و علامات كى تهتدى بهم فى طرق حياتك و لعل هناك من السلبيات فيها ما لا يرضى الله سبحانه و تعالى فأراد لك الخير بصدمة هى المنعطف المصيرى فى حياتك و أتبعها برسالة يومية لعلكى تفيقى و ما يؤكد الخير فى نفسك موقفك تجاه الطفلة التى صدمتيها فأنت لم تغادريها هربا و لم تتملصى من فعلتك و تعاملتى معها كيفما أمرنا الله تعالى فقد قال جلت قدرته فى الآية الثانية والتسعين من سورة النساء : ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً ﴾ صدق الله العظيم .

أما أمر مصالحتك مع نفسك الذى نجحت فيه أثناء العمرة فهذا أمر طبيعى لأنك و أنت فى رحاب الأرض الطاهرة خلعتى عنك عباءة سيدة الأعمال بكل أوزارها و ارتديت رداء الطهر و التوبة و لعلك عندما عدت إلى بلدك مرة أخرى عدتى لنفس ردائك و أسلوبك الخاطىء فى إدارة أعمالك فتدنست نفسك مرة أخرى و عاد إليك صوت ضميرك تماما كما وصفه لك الطبيب يحارب فيك النفس الأمارة بالسوء و لعمرى ملامح الطفلة التى تطابق ملامحك هى نفسك الطاهرة قبل أن تنتهكها حياة المال و العمال و ارتباط التصادم الذى راحت ضحيته طفلة صغيرة ارتباطا محوريا و كأنك صدمتى نفسك منذ زمن بعيد و قتلتى البراءة فى روحك فعادت تثأر منك فى صورة كابوس يومى لن يغادرك إلا لو أعدت الطفلة البريئة فى نفسك للحياة مرة أخرى .

و ما عودة البراءة الطفولية إليك ببعيد غير أن تنزعى ثوب الشيطان الطامع فى المال و ترتدى ثوب الطهر كما كنت عليه فى الروضة الشريفة .

 

الأمر ليس بعسير مجرد تغيير شامل فى منهاج حياتك عليك فيه أن تتبعى طرقا سوية فى عملك فليس كل حياة رجال الأعمال سيئة و لكننا نلوث الطهر فيها بصراعاتنا إتباعا لهوى الشيطان .

اجعلى للبر فى نفسك مكانا حصينا تتحصنين به من غولاء إبليس و أعوانه و لك فى حديث الرسول محمد صلى الله عليه و سلم نبراس نور تستضيئين به فقد قال فى الحديث الشريف : ( عَنْ وَابِصَةَ بْنِ مَعْبَدٍ الْأَسَدِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِوَابِصَةَ جِئْتَ تَسْأَلُ عَنْ الْبِرِّ وَالْإِثْمِ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَجَمَعَ أَصَابِعَهُ فَضَرَبَ بِهَا صَدْرَهُ وَقَالَ : اسْتَفْتِ نَفْسَكَ اسْتَفْتِ قَلْبَكَ يَا وَابِصَةُ ثَلَاثًا ، الْبِرُّ مَا اطْمَأَنَّتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ ، وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي النَّفْسِ ، وَتَرَدَّدَ فِي الصَّدْرِ ، وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ) صدق رسول الله صلى الله عليه و سلم .

و من هنا تدركين أن علاجك فى يدك أنت ليس أحد آخر لو اتبعت طريق براءتك و أنت طفلة سوف تنجين مما أنت فيه أما لو استهوتك شهوة المال و بريقها الزائف فتحملى ما أنت فيه من أشواك تقض مضجعك و تدميه .

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة