زمن السلام يأتي عبر "إسرائيل المنبوذة"

16-10-2025 | 17:19

ثَمَّة حقيقة واحدة ظهرت من مأساة غزة، ألَا وهي: "نحن نستطيع" أن نفرض السلام. والأمر ربما لا يحتاج لوسائل عنيفة، فقط إظهار جوهر القضية، وهي الاحتلال العنصري النازي، والذي دام لعقود طويلة، ولا بد أن ينتهي. والأمر الآخر أن الشعب الفلسطيني لا بد أن يمارس "حق تقرير المصير"، ويقيم دولته المستقلة ذات السيادة.

وفي نفس الوقت، عدم الوقوع في فخ أن المشكلة في حماس، وغزة، أو إعادة الإعمار، أو محصورة في الحقوق الاقتصادية، أو عدم وجود طرف فلسطيني، أو ضرورة تفهم مخاوف إسرائيل الأمنية، أو لنؤجل الحل حتى نحل الأزمة الإيرانية أو غيرها.

ولعل أخطر فخ هو "متاهة المفاوضات". فقد انقلبوا على عرفات وعباس وأوسلو، وكل ما تَمَّ الاتفاق عليه. والآن لا ينبغي أن نُلدَغ مرة أخرى بنفس الأكاذيب، ولا نُستدرَج للعبة البلهاء، وهي: "علينا أن نوسع عملية التطبيع" مع الدولة العنصرية بلا ثمن، وعلى أمل أن تُقابَل حسن النية "بإعادة الأرض المحتلة".

لقد أظهرت التجارب المريرة أن ذلك كله "مجرد هراء"، ويضع الذين يقبلون بذلك في موقف لا يُحسَدون عليه: إما شركاء في جريمة تصفية القضية وتوحُّش الاحتلال، أو أنهم "سُذَّج ولا أقول بُلهاء"، وليسوا بقدر الرقص مع الذئاب. وأحسب أن قمة شرم الشيخ شَهِدَتْ لمحة من قدرة مصر والدول العربية والإسلامية على الفعل المؤثر بالتعاون مع دول كُبرى بدأت تتجاوب مع ضرورة حل القضية الفلسطينية.

وهذه اللمحة في تواجد السلطة الفلسطينية وغياب إسرائيل، وحضور محمود عباس، وإجبار نتنياهو على الغياب رغم كل محاولات ترامب لتعويمه، وفك حصاره، وانتزاع عفو عن جرائم الفساد التي أُدِينَ بها. وتجرَّع نتنياهو إذلالًا علنيًا بعدما اضطر للاعتذار بعد وقت قصير من إعلانه الحضور، فقد أثار إعلان حضوره موجة اعتراض من قادة المنطقة، فقد مارست تركيا والعراق، ودول عربية وإسلامية أخرى، ضغوطًا على ترامب لمنع حضور نتنياهو لقمة السلام.

وأكَّد مايكل ميلشتاين، وهو ضابط سابق في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، وخبير حالي في الشئون الفلسطينية في مركز موشيه ديان في جامعة تل أبيب، أنَّ "معظم الإسرائيليين لم يقتنعوا بالحجة القائلة إنّه لم يحضر بسبب الأعياد اليهودية".

وأضاف: "كان يخشى أن يضطر خلال هذا الحدث لمصافحة محمود عباس، وقادة فلسطينيين آخرين، ولو التُقِطَت صورة لذلك لكان وزير المال اليميني المتطرف بتسلئيل سموتريتش أكَّد فورًا أن هذه اللقطة تُثبِت أن نتانياهو قد وافق على فكرة الدولتين، وهدَّد بالانسحاب من الائتلاف أو الحكومة".

وأدارت المجموعة العربية والإسلامية بقيادة مصر حملة علنية وسرية لترسيخ صورة "إسرائيل المنبوذة"، فقد صرَّح مستشار رئيس الوزراء العراقي علي الموسوي، لوكالة فرانس برس، بأن العراق الذي لا يعترف بإسرائيل، هدَّد أيضًا بالانسحاب من القمة "إذا شارك نتانياهو فيها". وأضاف أن "الجانب المصري أبلغ نتانياهو بعدم إمكان استقباله، مما أدى إلى إلغاء مشاركته" في القمة.

وأوضح عضو في وفد آخر في شرم الشيخ أنَّ هناك دولًا كثيرة لا تعترف بإسرائيل، وقد أصيب قادة بعضها بالتوتر إذ لم يرغبوا في التقاط صورة معه، "لذلك تراجع عن قراره".

وتَتَّهِم دول عدة حضرت القمة المصرية، منها تركيا وبعض الدول الأوروبية مثل إسبانيا، إسرائيل بارتكاب "إبادة جماعية" في غزة.

وفي المقابل، رحَّب دونالد ترامب بحفاوة بمحمود عباس، الذي يُعدّ وجوده في مصر "مؤشرًا جيدًا جدًا" إلى "الاعتراف بدور السلطة الفلسطينية كهيئة شرعية". وتعليقًا على صور ماكرون وهو يرافق محمود عباس للقاء دونالد ترامب، قال وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو عبر منصة "إكس" "إنه كان يُفترض أن تكون فلسطين غائبة عن الصورة، لكن فرنسا أخذت زمام المبادرة ليتم الاعتراف بها". وهكذا نرى جهود فرنسا مع جهود القاهرة الواضحة في حضور القضية الفلسطينية وحصار إسرائيل.

وفي الوقت نفسه، يَشهَد العالم حاليًا "تسونامي كاسح" لا يتحدث سوى عن إنهاء الحرب في غزة، وآفاق السلام المرتقبة، واضطُرَّ ترامب للقول أن "الحرب انتهت"، وأن المرحلة المقبلة هي مرحلة سلام، وإعادة إعمار قطاع غزة، ردًا على مدى وثوقه بشأن إنهاء الحرب. مما يطرح أسئلة: ماذا يعني توقف القتال لنتنياهو، وهل سيتمكن من استئناف الحرب، وإغضاب ترامب، أم مواجهة غضب حلفائه في الائتلاف، وربما انهيار الحكومة؟

ويطارد حصار وقف الحرب وإحلال السلام كذلك بتسلئيل سموتريتش وبن غفير، المتطرفين رأسي حربة المشروع الاستيطاني في الضفة وغزة، ورغم معارضتهما لخطة ترامب، لم يستخدما ورقة الانسحاب من الحكومة. وهو ما يوحي بأنهما وتيارهما فقدوا النفوذ المطلق داخل الحكومة، ولكن ليس الكُلِّي، إذ ما زالت الضفة حاضرة في خطابهما مما يُنذِر بأن الضغط الآن سيزداد على الأراضي المحتلة.

ويرى مراقبون أن نتنياهو ربما يتجه إلى انتخابات تشريعية مبكرة، مما قد يتيح له الاستمرار في منصبه، بدعم من المعارضة، وزخم دولي قادته الولايات المتحدة بعنوان إنهاء الحرب بالشراكة معه شخصيًا، وتشكيل ائتلاف حكومي جديد من قوى الوسط واليمين الوسط، مهامها الأساسية خوض حرب جديدة، ولكن على جبهة مختلفة، عنوانها الأساسي ترميم صورة إسرائيل لدى الرأي العام الدولي، وربما محاولة إنهاء القضايا الجنائية التي تلاحق نتنياهو، ومسئولين إسرائيليين آخرين بتهم ارتكاب جرائم حرب وإبادة في قطاع غزة.

ويبدو أن نتنياهو بات أمام خيارات صعبة، في مواجهة كافة الضغوط عليه لعدم استئناف سياساته العدائية في المنطقة، وعزلة إسرائيل، وحصار الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومطالبة إسرائيل بدفع ثمن السلام.

ومما يُربك إسرائيل ورعاتها حالة التأييد الدولي والأوروبي المتصاعدة لمعاقبة إسرائيل، والمطالبة باتخاذ "خطوات ملموسة" و"مرتبطة بإطار زمني لا رجعة فيها".

وسوف يبقى يطاردنا السؤال المراوغ: هل بدأ زمن السلام؟ وأحسب أن السلام لن يتحقق سوى بمزيد من الضغط، وعدم إفلات دولة الاحتلال من العقاب، وكشف زيف تعاليها الأخلاقي، ومزيد من الحصار بوصفها دولة عنصرية منبوذة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة