هدفه إنقاذ 249 مليون إنسان من مرض الملاريا الذى يقتل طفلا كل دقيقة
موضوعات مقترحة
رحلة مصر طوال 100 عام تعتبر نموذجا عالميا فى التخلص من أخطر مرض يهدد الإنسان
أبحاثه تحاول الوصول إلى سر مقاومة البعوض الناقل للمرض للمبيدات والأدوية
مشكلة الملاريا أنه "مرض الفقراء" ولذلك لم يتعامل معه العالم مثل كورونا
نشأت فى أسرة بسيطة لم يكن التعليم بالنسبة لها اختياريا.. وتخرجت فى جامعة الإسكندرية بتفوق
مسيرة علمية لافتة للدكتور حنفي إسماعيل الأستاذ في بيولوجيا النواقل، والذي يقود مجموعة الكيمياء الحيوية في كلية ليفربول الإنجليزية للطب الاستوائي، فقد حصل على شهادتي بكالوريوس وماجستير في كيمياء المبيدات وعلم السموم من جامعة الإسكندرية، ثم بدأ رحلته في كلية ليفربول للطب الاستوائي عام ٢٠٠٧ للتركيز على الآليات الجزيئية لمقاومة الأدوية والمبيدات الحشرية.. بالتحديد كيفية تطوير نواقل الملاريا لمقاومة المبيدات الحشرية، ربما يبدو البحث متخصصاً أو تعتقد أنه ليس بأهمية كبيرة.. لكن انتظر لحظات لتكتشف أننا أمام أحد أكبر التهديدات التي تواجه البشر في كل أنحاء العالم، وهو ما يفسر كون أبحاثه يتم تمويلها بمنح تقدر بعشرات الملايين من الجنيهات الإسترلينية وبدعم من جهات مانحة عالمية مثل مؤسسة بيل وميليندا جيتس والصندوق العالمي ومجلس البحوث الطبية وغيرها.
في البداية، يقول د.حنفي إسماعيل: وُلدتُ في الإسكندرية ونشأتُ في أسرة متواضعة بسيطة، ولم يكن التعليم اختياريًا أبدًا، بل كان مسؤولية تجاه الذات، بدأ شغفي بالعلوم مبكرًا، كنت مفتونًا بكيف يمكن للمواد الكيميائية تعديل العمليات البيولوجية، واخترت تخصص كيمياء المبيدات وعلم السموم في الجامعة لأن مصر تعتمد بشكل كبير على الزراعة، والتي تواجه تهديدات مستمرة من الآفات والأمراض المنقولة بالنواقل، وتتيح دراسة كيمياء المبيدات تطوير أدوات لحماية المحاصيل ومكافحة نواقل الأمراض مثل البعوض، بينما يضمن علم السموم أن تكون هذه الأدوات آمنة للإنسان والحيوان والبيئة، ويتطلب هذا المجال مهارات متعددة التخصصات، وحصلت على درجة الماجستير من الجامعة، وركزت على تحسين تركيبات المبيدات الحشرية للتطبيقات الميدانية العملية، وهو مجال اكتسب أهمية دولية حيث ظهرت مقاومة البعوض كتحدٍ عالمي ملح.
لكن قصة د.حنفي مع الملاريا بدأت مبكراً جداً، يقول: في يونيو 2005، شاهدت الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل يروي قصة تفشي الملاريا المدمرة في صعيد مصر خلال الأربعينيات، وصف هيكل كيف أظهر الملك فاروق في البداية التزامًا شخصيًا بمعالجة الوباء- بزيارة المناطق المنكوبة ومحاولة حشد جهود الإغاثة- فقط لكي تتطور الأزمة إلى فضيحة سياسية، لم تكن الملاريا، في روايته، مجرد أزمة صحية عامة؛ لقد أصبحت رمزًا للإهمال والفساد المتأصل خلال هذه الحقبة، وقد غيرت تلك القصة فهمي بشكل عميق، أدركت أن الملاريا ليست مجرد مشكلة بيولوجية، بل هي مشكلة مجتمعية. إنها تكشف عن عدم المساواة، وتشكل الوعي العام، ويمكنها إعادة تعريف الأولويات الوطنية، أجبرتني هذه الرؤية على النظر إلى العلم ليس بمعزل عن الحياة، بل باعتباره متشابكًا مع السياسة والعدالة والمسؤولية الاجتماعية. بعد عامين، حصلت على منحة دراسية للدكتوراه بتمويل ذاتي في كلية ليفربول للطب الاستوائي، وطبعاً واجهت بالتأكيد العديد من التحديات في البداية، فقد تركتُ خلفي عائلتي وثقافتنا ومعرفتنا.. كانت زوجتي وابنتنا الصغيرة "ذات الأسبوعين" معي، تركت زوجتي، مُعلِّمة اللغة الإنجليزية، مسيرتها المهنية في مصر لتوفير الدعم المنزلي الذي كنتُ أحتاجه.
د.حنفي إسماعيل متخصص في بيولوجيا النواقل، وهي فرع من علم الأحياء يدرس الكائنات التي تنقل البكتيريا والفيروسات والطفيليات من الحيوان إلى إنسان أو حتى بين البشر، وهذه الكائنات تسمى "نواقل" مثل البعوض، الذباب، الفئران وغيرها، وبالتالي يساعد في فهم كيفية انتشار الأمراض المعدية، مثل الملاريا، وتطوير استراتيجيات فعالة لمكافحة النواقل والحد من انتشار الأمراض التي تنقلها، وتطوير لقاحات وأدوية، ويكمل د.حنفي قصته قائلاً: أنا متخصص في بيولوجيا نواقل الأمراض، وتحديدًا البعوض ومقاومة المبيدات الحشرية. والملاريا لا تزال من أكثر الأمراض استمرارًا وتدميرًا في تاريخ البشرية، إذ تُرسّخ دورات الفقر وعدم المساواة في مناطق بأكملها، لكن ما جذبني علميًا هو المرونة التطورية الاستثنائية لنواقلها ومسبباتها، فالبعوض ليس هدفًا سلبيًا، بل أعداء بيولوجيين ديناميكيين، فهو يُطوّر بسرعة آليات إزالة سموم إنزيمية تقوم بتحييد المبيدات الحشرية، بل ويُغيّر سلوكه لتجنب ملامسة تدابير المكافحة، في الوقت نفسه، يُطوّر "المتصورة المنجلية"، الطفيلي المسؤول عن أخطر أشكال الملاريا، مسارات مقاومة خاصة به للأدوية، وبالتالي يسعى عملي إلى تجاوز النهج التفاعلي- حيث ننتظر ظهور المقاومة ثم نبحث عن بدائل، بدلاً من ذلك، أهدف إلى تطوير استراتيجيات تنبؤية، باستخدام الكيمياء الحيوية، وتحليل البروتينات، وبيانات السكان، لتوقع المقاومة قبل أن تصبح ذات أهمية عملية، والهدف هو دمج الكيمياء الحديثة مع أنظمة الصحة العامة مما يضمن أن تكون التدخلات متقدمة علميًا ومستدامة اجتماعيًا وسياسيًا، وقدمت مساهمات عديدة فيما يتعلق بالجوانب الجزيئية لمقاومة الأدوية والمبيدات، لكن الأزمة أن نواقل الملاريا الأفريقية الرئيسية، وهي الأنوفيلة الغامبية، والأنوفيلة فونستوس، والأنوفيلة العربية، طورت مقاومةً لجميع فئات المبيدات الحشرية المستخدمة على نطاق واسع تقريبًا، بما في ذلك البيرثرويدات التي شكلت العمود الفقري للناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية لعقود، وتنشأ هذه المقاومة من خلال آليات متعددة: إنزيمات إزالة السموم المُعززة، والطفرات في الأهداف العصبية، والتغيرات السلوكية التي تسمح للبعوض بتجنب ملامسة الأسطح المعالجة، أيضاً أخطر طفيليات الملاريا، لها تاريخ طويل في تطوير المقاومة، لقد تغلبت أولاً على الكلوروكين، ثم سلفادوكسين بيريميثامين، والآن نشهد الانتشار المبكر لمقاومة الأرتيميسينين في أجزاء من أفريقيا وآسيا، وهو ما يهدد جهود مكافحة الملاريا.
وبالتالي وسط هذه التهديدات الخطيرة من نواقل مرض الملاريا القاتل.. ما هو دور د.حنفي تحديداً في مواجهة هذا الخطر؟ يقول: يركز عملي على فهم آلية عمل الأرتيميسينين، وهو أهم دواء مضاد للملاريا في عصرنا، في عام 2015، وهو العام نفسه الذي مُنح فيه الأرتيميسينين جائزة نوبل، قدّم فريقنا رؤية آلية غير مسبوقة حول كيفية قتل الدواء للطفيلي على المستوى الجزيئي، حددنا مسارات رئيسية للطفيليات وأهدافا بروتينية تعطلها الأرتيميسينين، موضحين تأثيره السريع كمبيد للطفيليات، وبالتالي يُمكننا توقع المقاومة قبل انتشارها، يُمكّننا هذا من التصميم العقلاني لتركيبات الأدوية، وتطوير نظائر جديدة تتجاوز مسارات المقاومة، بل وحتى اكتشاف مركبات كيميائية جديدة تستغل نقاط ضعف الطفيلي بطرق جديدة، باختصار، يُزوّدنا فك رموز آلية عمل الأرتيميسينين بالمخطط اللازم لاستباق تطور الطفيلي والحفاظ على إحدى أهم أدوات مكافحة الملاريا عالميًا.
سألناه: هل البعوض هو الناقل الوحيد للملاريا إلى البشر؟ فهناك تقرير صحفي تحدث عن نوع من الملاريا انتقل إلى البشر في الماضي عن طريق القرود؟ يجيب: نعم، يتطلب انتقال الملاريا إلى البشر وجود بعوض النواقل، ومع ذلك، فإن الملاريا ليست مرضًا بشريًا حصريًا. توجد ملاريا حيوانية المنشأ تصيب القرود مثلاً، ولكنه يمكن أن ينتقل إلى البشر من خلال لدغات البعوض، وخاصة في المناطق التي يعيش فيها الناس والقرود على مقربة بسبب إزالة الغابات أو التوسع الزراعي، وتُبرز هذه الظاهرة التعقيد البيئي للملاريا، مُظهرةً أنها ليست مجرد تفاعل بين الإنسان والطفيلي، بل هي جزء من شبكة أوسع تشمل الحياة البرية والنواقل والتغير البيئي، وفي الماضي، شكّلت الملاريا تهديدًا كبيرًا للحضارات، وخسرت بعض الدول أعدادًا كبيرة من سكانها عندما اجتاحها هذا الوباء، وحاليًا، يموت طفل كل دقيقة بسبب الملاريا، ويُصاب مئات الملايين حول العالم، وربما نلاحظ أن العالم- كما رأينا مع فيروس كورونا- لم يتحد لوضع استراتيجية عالمية للقضاء على هذا الوباء، والبعض يلمح لكونه "مرض الفقراء" ولذلك لا تُخصص له ميزانيات ضخمة، للأسف، ومما لا يدعو إلى الارتياح، نعم، لا تزال الملاريا مرضًا يؤثر بشكل غير متناسب على أفقر المجتمعات وأكثرها تهميشًا، لاسيما في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وأجزاء من جنوب وجنوب شرق آسيا، غالبًا ما يكون لهذه المناطق تأثير جيوسياسي محدود وأنظمة صحية أضعف، مما يجعل المرض "أكثر اختفاءً" عن مراكز القوة العالمية، ورغم عقودٍ من المعاناة. لا تزال الملاريا تقتل أكثر من 600 ألف شخصٍ سنويًا، معظمهم من الأطفال دون سن الخامسة، أي ما يقرب من طفلٍ واحدٍ كل دقيقة، والمشهد التمويلي للملاريا لا يزال ضئيلًا جدًا مما هو مطلوبٌ لتحقيق القضاء الحقيقي على المرض، وحتى نُدرك أن العدالة الصحية لا تنفصل عن العدالة الاجتماعية.. فإن خطر الملاريا سيظلّ أزمةً بطيئةً تُدار ببطء، لكنها لا تُهزم حقًا.
صورة تعبيرية
د.حنفي إسماعيل يشير لتهديد آخر.. وهو سرعة التغير المناخي، حيث تؤكد الأبحاث أن الوفيات العالمية الناجمة عن هذا المرض قد تتضاعف في السنوات القادمة إذا استمرت درجات الحرارة في الارتفاع، إلى جانب زيادة الفيضانات، ويضيف: درجات الحرارة الأكثر دفئًا وتغير هطول الأمطار يخلقان موائل تكاثر جديدة، حتى في المناطق المرتفعة مثل المرتفعات الإثيوبية، حيث تكون المناعة منخفضة، تزيد الفيضانات من تكاثر البعوض، كما أن ارتفاع درجات الحرارة يُسرّع من نمو الطفيليات داخل البعوض، بوضوح.. يُحوّل تغير المناخ الملاريا إلى تهديد متطور لا يمكن التنبؤ به، كما أن استخدام الناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية ورغم أنه ساهم في انخفاض معدلات وفيات الأطفال بنسبة ١٧٪، لكنه ليس كافيًا. وبالمثل، فإن التطعيم المضاد للملاريا ليس كافيًا. ويمثل إدخال اللقاحات خطوة مهمة إلى الأمام. ومع ذلك، تتطلب الملاريا استجابة شاملة ومتعددة الطبقات، نحن نحتاج إلى أدوية متعددة تستهدف مراحل مختلفة من دورة حياة الطفيلي، وتشخيصات متاحة تصل حتى إلى أكثر المجتمعات عزلة، وأنظمة صحية أقوى قادرة على ضمان الوصول العادل والاستخدام السليم لهذه التدخلات. فحتى أكثر الأدوات فعالية تفشل عندما لا تكون متاحة، أو يُساء استخدامها، أو لا تدعمها البنية التحتية اللازمة. الملاريا ليست مجرد مشكلة طبية حيوية، بل هي تحدٍّ منهجي يتطلب حلاً متكاملاً.
ولكي تتضح أكثر خطورة المشكلة.. يقول د.حنفي إسماعيل: إن الملاريا أكثر تعقيدًا من الفيروسات؛ فهي تختفي عن جهاز المناعة البشري بالتحول الفوري إلى أشكال مختلفة داخل جسم الإنسان، مما يجعل من الصعب على جهاز المناعة مكافحتها، وربما هذا هو سبب عدم وجود علاجات فعالة لهذا المرض حتى الآن، فطفيليات البلازموديوم كائنات تطورية خفية. تنتقل عبر مراحل الكبد والدم، مغيرةً باستمرار بروتينات السطح للتهرب من المناعة، ويفوق هذا تعقيد العديد من الأمراض الفيروسية، وحتى عندما تكون الأدوية فعالة، تظهر المقاومة في النهاية، تقريباً هو سباق تسلح مستمر.
تقول الأمم المتحدة في أحدث تقرير لها صدر عام 2023، تحت اسم "تقرير الملاريا في العالم": إنها سجلت في عام 2022، 249 مليون إصابة بفيروس الملاريا و608.000 حالة وفاة في 85 بلداً حول العالم، وأضافت أن سكان الريف في أفريقيا الذين يعيشون في حالات فقر ويقل حصولهم على التعليم هم "الأكثر تأثراً" ولذلك، حذرت المنظمة من أن الاستراتيجية التي أقرتها لعام 2025 لمكافحة "مرض الفقراء" كما تطلق عليه، قد تفوت فرصها في التنفيذ بسبب الفقر، لكن النقطة الايجابية كان عنوانها "مصر".. ففي عام ٢٠٢٤، أكدت منظمة الصحة العالمية خلو مصر من الملاريا، وجاء هذا الإنجاز بفضل جهود الحكومة المصرية وشعبها على مدى أكثر من ١٠٠ عام للقضاء على مرضٍ وُجد في البلاد منذ القدم، يقول د.حنفي إسماعيل: شهادة منظمة الصحة العالمية التي حصلت عليها مصر تُمثل تتويجًا لما يقرب من قرن من العمل المتواصل والمنسق، لم تكن الرحلة سريعة ولا سهلة، فقد جمعت بين رسم خرائط دقيقة لمواقع تكاثر الملاريا، وإدارة دقيقة للمياه والتحكم في الري، وتوفير العلاج للجميع، وتوزيع الناموسيات المعالجة بالمبيدات الحشرية على نطاق واسع، والأهم من ذلك، الالتزام السياسي الثابت عبر الحكومات المتعاقبة، لم تكن هذه حملةً لمرة واحدة، بل جهدًا امتد لأجيال عديدة، تكيف مع الواقع البيئي والوبائي المتغير، وتكمن أهميتها التاريخية في عمقها، يُظهر الحمض النووي القديم المُستخرج من المومياوات وبقايا الهياكل العظمية أن الملاريا قد ابتُلي بها المصريون منذ عام 4000 قبل الميلاد على الأقل، مما أثر على صحة السكان والهجرة وحتى التاريخ السياسي على طول نهر النيل.. إن التحول من آلاف السنين من انتقال المرض المتوطن إلى القضاء التام يُبرز ما هو ممكن عندما تتوافق العلوم والسياسات والعمل المجتمعي على المدى الطويل، كذلك استفادت مصر من عوامل جغرافية واجتماعية وسياسية فريدة. فقد تركز انتقال المرض تاريخيًا في بؤر محددة، مما جعله أكثر قابلية للسيطرة عليه من المناطق الاستوائية الشاسعة حيث يكون انتقال الملاريا مكثفًا ودائمًا، ولذلك، للأسف، تواجه العديد من الدول الأفريقية تحديات أكبر بكثير، تنوع أكبر في النواقل، وتنوع أكبر في الجينات الطفيلية، وكثافة سكانية كبيرة في المناطق الريفية مع محدودية الوصول إلى الخدمات الصحية، والآثار المُركبة للصراع والفقر وتغير المناخ. ومع ذلك، لا يزال نجاح مصر مفيدًا للغاية. فهو يُثبت أن القضاء على الملاريا ليس هدفًا بعيد المنال. يمكن لدول أفريقية أخرى أن تحقق الإنجاز نفسه، فالقضاء على الملاريا ممكن، لكنه يتطلب الصبر والتكيف وإرادة سياسية راسخة. تُذكرنا رحلة مصر بأنه على الرغم من أن الملاريا من أقدم أعداء البشرية، إلا أنها ليست حتمية.