تفوق الأبيض فكرة سياسية أم عقيدة ثقافية؟!

16-10-2025 | 14:21

لا أعرف لماذا كلما لمستني مسحة من الحزن، أو جاءني بعض من الهم، أو لنقل التفكير الزائد المفرط؛ أتذكر مقطعًا من أغنية لمحمد منير يقول فيها: "صحيح أنا أسمر، ولكن كل البيض يحبوني يالاللي".

وربما هذه العبارة تشغل تفكيري منذ زمن بعيد، وربما هي سبب هذا المقال؛ لأطرح ما أعانيه من تفكير مفرط عن تأثير الأبيض على الأسود، وعن السؤال الذي لا يهدأ: ما الذي كان في عقل شاعر هذه الأغنية ليكتب تلك العبارة.. التي أراها قاسية جدًّا، بل في غاية القسوة؟

وربما تلك الكلمات هي ما تجعلني أرجع سريعًا لطبيعتي؛ لأنني أفضل حالًا من ذلك الذي يستجدي الثقة من عيون وقلوب الآخرين.

هل شرط الجمال أن يحبك الأبيض؟! هل يحتاج الأسود إلى إجازة مختومة من الأبيض ليصدق أنه جميل، أو مثقف، أو متحضر؟!

وإذا وسعنا الدائرة، هل نحتاج إلى شهادة من أي شخص لنكون رائعين ومدهشين وأنقياء.. وحلوين؟ وهل لا بد أن نحصل على شهادة حسن سير وسلوكٍ من الغرب قبل أن نؤمن بأنفسنا؟

أم أن هذه هي عقدة الخواجة؟! هي الجرح الذي لم يلتئم بعد، ذلك الإعجاب الأعمى بالآخر حتى لو كان لا يرانا إلا من علٍ.

ليست «العقدة» مجرد عادة اجتماعية، بل مرضٌ حضاري له جذورٌ عميقة، زرعها الاستعمار في العقول قبل أن يرحل عن الأرض.

وحين غادرنا بحدوده وجيوشه، ترك وراءه شيئًا أثقل.. ترك «الخواجة» ساكنًا في داخلنا، يقيسنا بمعاييره، ويمنحنا الرضا إن تشبّهنا به.. ترك نظرية "تفوق الرجل الأبيض على الجميع".

الفيلسوف والطبيب فرانز فانون كتب في كتابه الملهم والمهم "بشرة سوداء وأقنعة بيضاء": إن المُستعمَر حين يُجبر على التحدث بلغة المستعمِر، يبدأ في التحدث بعقله أيضًا.. وكتب أيضًا: «كلما تحدث الزنجي بالفرنسية، صار أبيض قليلًا»، وهي واحدة من الجمل الموجعة التي تختصر رحلة التشوه النفسي التي يعيشها الإنسان المقهور.

فالعبد لا يحتاج إلى سلاسل حديدية، بل إلى مرآةٍ يرى فيها نفسه صغيرًا.. ومن تلك المرآة خرجت عقدة الخواجة - حين يقيس الإنسان ذاته بعين من لا يراه مساويًا له أصلًا.. هل هنا يبدأ الحزن أم تبدأ السعادة؟!
أما إدوارد سعيد فقد بيّن في كتابه «الاستشراق» أن الغرب لم يكتب عن الشرق إلا كما يكتب الرسام عن لوحةٍ غريبة أمامه، يرسمها من خياله لا من واقعها.. كتب إدوارد يقول: "الشرق لم يُعرف إلا من خلال مرآة الغرب".. ومع الزمن صدّق الشرق الصورة التي رُسمت له، فصار يتحدث عنها كما لو كانت حقيقته.

وهكذا تحوّل «التفوق الأبيض» من فكرة سياسية إلى عقيدة ثقافية تعيش في الكتب والإعلانات ونظرات الإعجاب بكل ما هو أوروبي.

أما مفكرنا الكبير جلال أمين فتحدث عن الظلّ.. ففي كتابه "عقدة الخواجة عند المصريين" رأى أن المصري لا يزال - في أعماقه - يطلب رضا الغربي على أي إنجازٍ يحققه.. يستشهد بعباراته، يستأنس بملابسه، ويطمئن حين يبتسم له.. يقول أمين أيضًا: "نحن لا نثق في الفكرة إلا إذا قيلت بلسانٍ أجنبي".. وعندنا أكبر مثال نراه بأعيننا يوميًّا: المدربون الأجانب في الأندية الكبيرة.. فكل اختيار لهم صادق، وكل خطة لهم عبقرية، وكل مدرب يأتي هو أفضل بأي حال من أي مدرب محلي موجود أو كان أو سيولد مستقبلًا.

ربما استلهم الشاعر الذي غنّى له محمد منير شيئًا من الفيلسوف الفرنسي ألبير كامو، حين قال إن الإنسان المقهور لا يطلب العدل بقدر ما يطلب الاعتراف. وتُنسب هذه الصياغة صراحةً إلى المفكّر والمحلّل السوري مصطفى حجازي، الذي جعلها لبَّ فكرته عن الإنسان المقهور في عالم متسلّط. فالاعتراف هو ما حُرم منه الأسود طويلًا، حتى صار يقف أمام الأبيض كأنه يطلب إذنًا ليكون إنسانًا كاملًا.

إن تفوق الرجل الأبيض على الأسود لم يكن قانونًا في الطبيعة، بل صناعةً في التاريخ، صناعةً بدأت حين صدّق الأسود أنه أدنى، وحين سمح للأبيض أن يُعرّف الجمال والذكاء والفضيلة باسمه وحده.. ومن هنا بدأ الانحدار الأخلاقي الذي حوّل «اللون» إلى مقياسٍ للروح.

إن الثقة بالنفس والتحرر تبدآن بخروج عقدة النقص من النفس البشرية ذاتها.. حين ينظر الإنسان في المرآة ويقول: "صحيح أنا مختلف، ولكني لا أحتاج إلى إذنٍ لأكون جميلًا".. حينها فقط تنتهي عقدة الخواجة.. ويبدأ الإنسان الجديد.. الإنسان الذي يرى في كل لونٍ ظلًا من الله لا عيبًا في الطين.

إكس: @ahmedtantawi

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة