كلما تشرفتُ بحضور مناسبةٍ أو احتفالٍ يخص قواتنا المسلحة الباسلة، ازداد فخري واعتزازي بهذه المؤسسة الوطنية العريقة؛ فهذه المناسبات تجعلك تقترب أكثر من بؤرة الأحداث، لترى عن كثب كيف تؤدي واجباتها ومهامها بتفانٍ وصمتٍ دفاعًا عن أمننا القومي، في وقتٍ تتكاثر وتتعاظم فيه التحديات والتهديدات من حولنا على الصعيدين الإقليمي والدولي.
وقبل أيامٍ قليلة، شاركتُ في احتفال قواتنا الجوية بعيدها الثالث والتسعين، والتقيتُ رجالًا من خيرة أبنائنا، وخرجتُ من اللقاء بعدة حقائق لا جدال فيها، أولاها رغبة التطوير التي أعلنتها القيادة السياسية ونفذتها القيادة العامة للقوات المسلحة، وقادت إلى التطوير والتحديث النوعي المستمر، ليس فقط لطائراتنا الحربية بمختلف طرازاتها وأنواعها المتقدمة، ومطاراتنا وتسليحنا، بل – وهو الأهم – للقدرات والكفاءات البشرية لقواتنا الجوية، لتكون على أعلى مستوى من التدريب والجاهزية حين يصلهم نداء الواجب.
جلستُ واستمعـتُ إلى رجالٍ وقياداتٍ واعين تمامًا لما يدور في منطقتنا وما يُحاك ضد مصر، ويمتلكون رؤية تحليلية ثاقبة لتطورات وتداعيات الأوضاع في الشرق الأوسط والعالم، بتفاصيلها الدقيقة وغير المنظورة للكثيرين، وكلهم إصرار على بلوغ العُلا في كل ما يقومون به، وينقلون بسخاء خبراتهم العريضة والقيمة إلى الأجيال الجديدة المنضمة حديثًا إلى القوات الجوية، والذين يتم اختيارهم وانتقاؤهم وفقًا لقواعد ومعايير شديدة الصرامة والدقة، ولا تهاون فيها، حتى يكون لدينا دائمًا طيارون وفنيون يُصنفون في خانة الأفضل بين أقرانهم في البلدان الأخرى.
وإذا تابعنا -على سبيل المثال لا الحصر- المناورات المشتركة الأخيرة التي شاركت فيها قواتنا الجوية، وأبرزها مناورة "النجم الساطع"، سنرى مدى ما تتمتع به من كفاءةٍ عاليةٍ كانت محط إعجابٍ وانبهار واحترام المشاركين فيها والمتابعين لها من المتخصصين في الشأن العسكري، فضلًا عن الجوائز التي حصدها طيارونا خلال مشاركاتهم في المسابقات والبطولات العالمية، وهو ما يمثل شهادة تقدير وتميز وتفوقٍ لمعلميهم وأساتذتهم الأجلاء في الكلية الجوية، الذين يسلمون راياتهم دائمًا وأبدًا مرفوعةً خفاقة.
ثاني الحقائق أن قيادتنا السياسية قرأت منذ البداية المشهد جيدًا، ورأت – في وقتٍ مبكر – ضرورةَ تزويد قواتنا الجوية بأحدث ما أنتجته الترسانات العسكرية من مقاتلاتٍ ومعدات وتكنولوجيا، وقد أدركنا بمرور الوقت كم كانت تلك الرؤية صائبةً وفي محلها تمامًا وفي توقيتها الصحيح، مع تدهور الأوضاع في الشرق الأوسط وتزايد التهديدات والعدائيات في جميع الاتجاهات الإستراتيجية، وهي أمور تستدعي امتلاكَ كافة وسائل الردع المتاحة لمواجهتها وإجهاض أي محاولةٍ تمس الأمن القومي المصري، أو مصالحنا الإستراتيجية العليا، أو أمننا المائي.
ثالث الحقائق أن لقواتنا الجوية دورًا مشهودًا في خدمة المجتمع المدني وجهود الإغاثة الإنسانية، ويكفيها ما قامت به من عمليات إسقاط للمساعدات لأشقائنا الفلسطينيين في قطاع غزة، في ظل ظروفٍ صعبةٍ للغاية، واحتاجت لترتيباتٍ واستعداداتٍ معقدة، بغرض التخفيف من معاناة أهلها الذين تعرضوا -على مدار العامين الماضيين- لعمليات إبادةٍ نفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكلٍ مكثف وممنهج. وفي الواقع، فإن أهالي غزة يدركون تمام الإدراك حجم وقدر ما قدمته مصر لهم خلال محنتهم العصيبة.
وانظروا كيف استقبل الفلسطينيون نبأ التوقيع على اتفاق وقف إطلاق النار في شرم الشيخ، وخروجهم إلى الشوارع بصورةٍ عفويةٍ، وحرصهم على شكر مصر قيادةً وشعبًا على ما قدمته لهم في الحاضر والماضي، وعلى وقوفها حائط صد في وجه مخططات التهجير وتصفية القضية الفلسطينية. أضِف إلى ذلك تقديمها يد المساعدة للدول الشقيقة والصديقة في الأزمات والكوارث التي تتعرض لها.
رابع الحقائق أن لقواتنا الجوية إسهاماتٍ كبيرةً في التطوير التكنولوجي المرتبط باحتياجاتها التسليحية، ومن بينها تصنيعُ طائراتٍ مُسيرة بالاشتراك مع دولٍ أخرى، وكلنا يعلم أن الطائرات المسيرة باتت سلاحًا فاعلًا وحاضرًا بقوةٍ في ميدان المعركة. فقد رأينا كيف استخدمتها القوات الروسية والأوكرانية في الحرب الدائرة بين موسكو وكييف، وكذلك خلال الهجمات المتبادلة بين إيران وإسرائيل طوال اثني عشر يومًا، وهو ما يشير إلى مدى أهمية هذا السلاح وضرورة الاستحواذ على الوسائل الكفيلة بالتصدي له.
إن أفراد وضباط قواتنا الجوية، حراس سماء وطننا الأشداء، أوفياءُ للعهد في كل مكانٍ وزمان، وشعارُهم المرفوع على مدار الساعة: "إلى العُلا في سبيل المجد".