دعوة لغرس شغف القراءة في الشخصية المصرية

16-10-2025 | 14:18

بناء شخصية الإنسان يخضع لعدة عوامل كثيرة، منها: رصيده الذي يختزنه في ذاكرته، نصيبه من كَمِّ المعارف والمعلومات، يرجع لما يملكه من محتوى ثقافي تَمَّ البحث عنه بشغف، تَمَّ له الإعداد وتَمَّت له تهيئة الأجواء، كل ما تلقاه من خلال تنشئته ليضعه في إطار يشكله، يُصدِّره لمجتمعه كإنسان يحترم ذاته والآخرين، يواكب عصره بما لا ينتقص من تاريخه وحضارته من نصيب وإرث يفخر به، يُجيد التعبير عن نفسه، يعتز بوطنه ومن ثم ينتمي إليه، يتحول لصورة مُشَرِّفة ترفع قدره، تمكنه من إثبات ذاته وتحقيق ما لديه من أحلام وأمنيات.

ربما يبدأ شغفه بالقراءة وتنمو رغبته في الاطلاع منذ سنوات طفولته الأولى، فحكايات الآباء والأجداد كانت جزءًا من موروث ثقافي تركه لهم آباء وأجداد سابقون. عاش أغلبنا هذا وعاصره، حينما كنا نُحاط ونحيا ببيئة هادئة ننعم فيها بالسلام، بيئة آثرت الاعتكاف بعيدًا، تخلت عن كل صَخَب، وحَرَّمت الفوضى، فتحت أبوابها العملاقة واستقبلت ما لدينا من اتساع للخيال، ساهمت بشكل هائل في خلق دافع قوي للتعرف على المزيد، مَهَّدت لإيجاد إنسان يعرف قدر ذاته، يتمسك بهويته، يتمكن من فَرْز كل ما يُعرَض عليه، يتعوَّد فن الانتقاء.

أذكر جيدًا تلك المكتبة المتواضعة التي كانت توجد داخل حُجُرات الدراسة في الماضي، إنها عبارة عن دُولاب خشبي صغير مُعَلَّق على إحدى الجدران، يحمل بداخله بعض القصص التي كان المعلم يقوم بتوزيعها علينا؛ لكي نقرأ ما بها من جُمَل وكلمات، نتفحص الصور الموجودة بداخلها جيدًا، نطبعها في ذاكرتنا لتبقى حاضرة بأعيننا حتى الآن.

كنا نقوم بعد ذلك بسردها على قَدْر استطاعتنا، نستخرج من كل واحدة منها دروسًا مستفادة، لنخرج بعدها بالكثير من النصائح والحِكَم والعِظات. كأنه زَرَعَ بداخل كل واحد منا بذرة حبه الأول للقراءة، هيأ له البيئة والمُناخ، مَنَحَها الفرصة لكي تنمو وتَعلو وتُعانق بفروعها عنان السماء، يرويها على مَهْل بلا كَلَل أو مَلَل، فقد كان يعلم دوره ويُقدِّر رسالته المقتطَفة من رسالة الأنبياء، يبدو لي أننا كنا مشروعه الخاص الذي كان يُعِدُّه لنفسه ليَحيا بداخلنا في مستقبل الأيام.

نكبر وننتقل من صَفٍّ إلى صَفٍّ، ومن مرحلة إلى أخرى، ويكبر معنا شغفنا الذي أودعه مُعلمنا فينا، ودعوته لحب القراءة ورغبة لا تنقطع في الاطلاع، حتى أصبح هذا الاتجاه جزءًا من تركيبتنا، صار كنزنا المُبَاح، نأتيه متى أردنا نتجول بين سراديبه فنَنْهَل ما نشاء؛ لا يخفى على أحدنا أن الكتاب في عصرنا الحالي لم يَعُدْ يتمتع بهيبته السابقة كما كان بعد أن باغَتَتْه عوامل أخرى قامت بتنحيته جانبًا بشكله وخاماته؛ إلا أنه سيبقى حاضرًا بين أيدي هؤلاء الذين ما زالوا يَرَوْنَه الصديق الوفي، أولئك المُولَعين برائحة أحباره، المُنْتَشِين بما داخله من رحيق للصفحات.

ما زال الأمل معقودًا على خلق جيل يَهْوَى القراءة، يُقدِّر قيمة الاطلاع، جيل يملؤه شغفه ويفيض عليه ليدفعه دَفْعًا نحو تحقيق ذاته بثقة وثبات، جيل يُدرك تَمَامَ الإدراك أن المعارف والثقافات تَصْقُل الإنسان، تُمجده وتُسهم في بناء شخصيته على النحو الذي يتمناه ويرجوه منه مجتمعه الذي يرى فيه الأمل، جيل لا يتخلى عن عاداته وتقاليده مُتَّبِعًا لصيحات غَرْبٍ لا يُشبهنا ولا نُشبهه، جيل يرغب في أن يكون مَثَلًا أعلى لإنسان مصري -أصيل- يشار إليه بالبَنَان.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة