عندما تشعرُ أنَّك مخنوق! توجّه فورًا للخالقِ، لا للمخلوق..
خلقَ اللهُ للإنسان نفسًا سوية، وفطرةً نقية، وغريزةً صادقة، لتُصان كرامته، وتُحفظَ مكانته، فلا خضوع ومذلة، ولا خنوع وتملق، ولا كذب ونفاق، من أجل دنيا فانية، وعَرَض زائل..
جَلَسَ رجلان ضَريران، على قارعة طريق زوجة أحد الملوك، وقد عُرِفَت بكرمها الشديد، آملين النيل من عطاياها، فكان أحدهما يدعو قائلًا: اللهم ارزقني من فضلك.
فيما الآخر، يدعو ويقول: اللهم ارزقني من فضل زوجة الملك!
وقد علمت زوجة الملك ذلك منهما، وكانت تسمعه بإذنيها!
فكانت تُرسل يوميًا، لِمَنْ طلب فضل الله، درهمين، وتُرسل لِمَنْ طلب فضلها، دجاجة مشويَّة، في جَوْفها عشرة دنانير، فكان صاحب الدجاجة، يبيع دجاجته، لصاحب الدرهمين، بدرهمين، كلَّ يوم، وهو لا يعلم ما بجوفها من دنانير، وبقي على ذلك عشرة أيام متتالية! ثم أقبلت زوجة الملك عليهما، وسألت طالب فضلها: أما أغناك فضلنا؟! قال: كيف يا مولاتي؟! قالت: مئة دينار، في عشرة أيام، قال: لا، بل دجاجة فقط، كنتُ أبيعها لصاحبي بدرهمين! فضحكت وقالت: طلبتَ من فضلنا، فحرَمك الله، وذاك طلب من فضل الله، فأعطاه الله وأغناه. وهكذا هي الدنيا،
مَنْ اعتمدَ على اللهِ فيها، ما ذلَّ ولا قَلَّ ولا ضلَّ ولا مَلَّ.
ذهبَ بعضُهم إلى المرأةِ الفقيرةِ، بدعوى أنَّهم خائفون على رِزقِها، ورِزقِ عِيالِها، إذ ذهبَ زوجُها إلى الجهادِ، فتُجيبُهم في ثقةٍ واطمئنانٍ: زَوْجي عَرَفتُه أكَّالًا، ولم أعرِفْه رزَّاقًا، فإنْ ذهبَ الأكَّالُ، فقد بقِي الرزَّاقُ!
في وقت يلهث فيه كثير من الناس، خلف سلطة دنيوية، ومكانة سياسية، ومكاسب مالية، فتراهم ينافقون، يخضعون، يخنعون، وقد يرضون الذل والهوان، في سبيل الصعود والوصول.
ما أسوأه من صعود! وما أذله من وصول!
قَدِمَ الخليفة الأموي، سليمان بن عبد الملك، مكة حاجًّا، فلما أخذ يطوف طواف القدوم، أبصر سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، يجلس في الكعبة، في خشوع وخضوع. فلما فرغ الخليفة من طوافه، توجه إلى سالم، فأفسح له الناس الطريق، حتى أخذ مكانه بجانبه، فلم ينتبه له سالم، ولم يلتفت إليه، إذ كان مستغرقًا فيما هو فيه، مشغولًا بذكر الله عما سواه، وطَفِقَ الخليفة يرقب سالمًا، بطرف خفي، يلتمس فرصة، يتوقف فيها عن التلاوة، فلما واتته هذه الفرصة، مال عليه، وسلَّم، وقال بصوت خفيض: سلني حاجة، أقضها لك، يا أبا عمر، فلم يجبه سالم، فظن الخليفة أنه لم يسمعه، فمال عليه أكثر من ذي قبل، وقال: رغبتُ بأن تسألني حاجة، لأقضيها لك.
فقال سالم: والله إني لأستحي أن أكون في بيت الله، ثم أسأل أحدًا غيره!!
فخجل الخليفة وسكت، وظل جالسًا في مكانه، فلما قُضيت الصلاة، نهض سالم، يريد المُضي إلى رَحْله، فلحقت به جموع الناس، هذا يسأله عن حديث، من أحاديث رسول الله، وذاك يستفتيه في أمر من أمور الدين، وثالث يستنصحه في شأن من شؤون الدنيا، ورابع يطلب منه الدعاء.
وكان في جملة من لَحِقَ به، خليفة المسلمين، سليمان بن عبد الملك، فلما رآه الناس، أفسحوا له حتى اقترب، وهمس في أذنه قائلًا: ها نحن أولاء قد غدونا خارج المسجد، فسلني حاجة، أقضها لك.
فقال سالم: من حوائج الدنيا، أم من حوائج الآخرة؟
فارتبك الخليفة، وقال: بل من حوائج الدنيا.
فقال له سالم: لم أطلب حوائج الدنيا ممن يملكها، فكيف أطلبها ممن لا يملكها؟!
فخجل الخليفة منه وحيّاه، وانصرف عنه.
هؤلاء العظماء، عرفوها تمامًا، فهي الدُّنيا التي، إذا حلَّتْ أوحَلَتْ، وإذا كَسَتْ أوكَسَتْ، وإذا جَلَتْ أوْجَلَتْ، وإذا أينعَتْ نَعَتْ، وكم من قبورٍ تُبنى، وما تُبنا، وكم من مريضٍ عُدنا، وما عُدنا، وكم من ملكٍ رُفعت له علاماتٌ، فلما عَلا، مات.
هارون الرشيد، وهو في سكرات الموت، قال، يبكي بكاءً، تتقطع له أنياط القلوب: يا مَنْ لا يزول مُلكه، ارحم مَنْ قد زال مُلكه، فما زال يُرددها، حتى فارق الدنيا.
عجيبة هي الدنيا وغريبة، ولا أحد يتوقعها. فهذا خالدُ بنُ الوليدِ، سيفُ اللهِ المسلولِ، على فراشِ الموتِ!
يبكي ويشتدُ بكاؤه، ويقولُ:
لقيتُ كذا وكذا زحفًا، وما في جسدي، موضعُ شبرٍ، إلا وفيه ضربةٌ بسيفٍ، أو رميةٌ بسهمٍ، أو طعنةٌ برمحٍ، وهأنذا أموتُ على فراشي، كما يموتُ البعيرُ،
فلا نامتْ أعينُ الجُبناءِ..
إذا سألتَ فاسألِ اللَّهَ، وإذا استعنتَ فاستعن باللَّهِ..
هكذا علمك نبيك الأكرم، صلى الله عليه وسلم..
جاء في الأثر:
لا تبكِ على وِسادتك، فلن تُغير من الأمرِ شيئًا، قُمْ وابكِ على سجادتك!
لا تُلقِ بالًا بالناس، فالناسُ يتبدلون، ينسون، يتقلبون، يتغيرون، يرقدون، يتغافلون، وأخيرًا يموتون. الناس ليسوا سندًا حقيقيًا، ولا عونًا أساسيًا..
انتظار المدد من الناس، كانتظار الذهب والفضة، ينزلان من السماء..
إذن دعك من الناس، ولا تعلق عليهم آمالك، فما أخطأك ما كان ليصيبك، وما أصابك لم يكن ليُخطئك.
فقط هو الله، تذلل بين يديه، وأحسنِ التوكلَ عليه.. وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ..