بخلاف هذه المقدمة، لن أكتب اليوم - تقريبًا - كلمة واحدة. قد أسمح لنفسي فقط بسطرين آخرين في المنتصف، وربما الخاتمة. هكذا قررتُ الاحتفال -على طريقتي- باليوم العالمي للصحة النفسية، الذي يوافق العاشر من أكتوبر كل عام، وحلَّ يوم الجمعة الماضية.
والاحتفال المقصود ليس بأن أُريح «نفسي» من الكتابة، فالكتابة «علاج نفسي» للكاتب في الأساس، قبل أن تكون محاولة لتقديم شيء ما للقارئ. إنما القصد أنني أردتُ أن أكون اليوم قارئًا فقط، بأن أترك هذه المساحة لـ«كتابة» أخرى، مسَّتني شخصيًّا، وقد تمسُّ القراء أيضًا، فنجد فيها جميعًا نوعًا من العلاج، والعزاء!
الكلمات التالية، جاءت في مقدمة كتاب جديد، بعنوان «س & ج.. قصص من العيادة النفسية»، صدر عن دار سما للنشر والتوزيع في القاهرة، للدكتورة نشوى شاكر، الأخصائية النفسية والصيدلانية، التي أهدت كتابها «إلى مَن سقطوا في العتمة وظنُّوا ألا نهار قادم.. أبشروا». والآن.. مع كلمات الكاتبة.
قد يمر يومك طبيعيًا في عيون الآخرين، لكنك وحدك تعرف كم معركة خضتها لتبدو «بخير». وحدك تُدرك أن الابتسامة التي رسمتها، ليست سوى قناع يغطي ألمًا. جميعنا يحمل ندبة ما، فقدًا ما، خوفًا لا يُقال، وارتباكًا لم يجد حضنًا يحتويه. لكن مَن منا يملك الجرأة ليقول: «أنا أحتاج المساعدة»؟
ففي زحام هذا العالم الصاخب، وفي زوايا الأرواح التي أرهقها الركض، لا يكون العلاج النفسي ترفًا يُقتنص حين تسمح الظروف، بل هو طوق نجاة يُمسَك به قبل الغرق، وقنديل يُضاء حين تتكاثف العتمة. فنحن لم نُخلق لنحتمل فقط، بل لنُشفى، لنهدأ، لنحيا بحق.
وليس عيبًا أن تطلب العون، العيب أن تُمضي العمر تئن في صمتٍ نبيل، وتنهار تحت ملامح متماسكة. فلا راحة تُشترى، ولا اتزان يُصطنع، ولا سعادة تُبنى على أرضٍ متصدعة. كم من علاقة أُتلفت، لا لشيء سوى لأن أحد الطرفين كان يُصارع نفسه في الخفاء؟ وكم من فرصة فُقدت لأنك لم تكن مستعدًا لأن تؤمن أنك تستحق الأفضل؟ وكم من حبٍ خنقناه، لا لأنه خان، بل لأن جراحًا قديمة كانت تحكم قراراتنا دون وعي؟ كيف لك أن تمنح شريك حياتك حبًا نقيًا وأنت مُثقل بالخذلان القديم؟ كيف تزرع دفئًا وأنت ترتجف من الداخل؟ كيف تبني علاقة متزنة وأنت تمشي فوق أرض من الجراح المؤجلة؟
لذلك، حين تشعر أنك لستَ بخير، إذن أنت بحاجة إلى علاج.. لا إلى الصمت. اختر أن تتعافى. اختر أن تُنصت لصوتك المُهمَل. اختر أن تقول: كفى.. أستحق أن أُشفى. فالعلاج النفسي ليس رفاهية، بل هو الإنصاف الذي تؤديه لنفسك، بعد عُمرٍ من التنازلات.
وهو الخطوة الأولى نحو حياة تستحقها فعلًا، لا تلك التي تَعتادها مُجبرًا. وهو جسرك إلى النسخة الأكثر صفاءً منك. لا تظن أنه حبة دواء، ولا جلسة تفيض فيها دموعك.. بل هو إعادة تشكيل للداخل، وتنظيف للذاكرة من شوائب الألم المتراكم، وتَعلُّم كيف تحيا دون أن تَجلد نفسك في كل خطوة.
واللجوء إلى جلسات العلاج النفسي لا يعني أنك ضعيف، بل يعني أنك قررت أخيرًا أن تُنقذ ما يمكن إنقاذه. فهو الخطوة الجريئة نحوك.. نحو تلك الذات التي لطالما صرختْ بصمت خلف ضجيج الحياة، وانكسارات الطفولة، وخذلان العلاقات، وقسوة التراكم. هو اللقاء الشجاع مع نفسك، لا لتجلدها، بل لتتفهمها.
وأنت حين تخوض رحلة العلاج، لا تفعلها فقط لأجل نفسك، بل لأجل شريكك، وأولادك، وأحلامك المؤجلة، لأجل تلك النسخة منك التي لطالما تمنَّيتَ أن تكون.
.. وبعد هذه الكلمات، راحت الدكتورة نشوى شاكر تستعرض على مدى الكتاب قصصًا مهمة من العيادة النفسية، مع شرح كيفية التعامل مع كل منها، مما يَصلح لعالم الدراما التليفزيونية، كمسلسل من حلقات متصلة منفصلة. لكنني استوقفني ردها هذا على صاحبة إحدى القصص.. فلنعد إلى كلماتها.
غالبية مشكلاتنا مع مَن نُحب لا تنبع من السلوك ذاته، بل من الأحكام المسبقة التي نُحمِّلهم بها، ثم نُعاقبهم عليها، دون أن نتحقق من نواياهم الحقيقية. ولا أخفيكم سرًّا: سرُّ الخلافات العائلية - بين الأزواج، والإخوة، والأهل، والأبناء - وسرُّ ردود الأفعال العصبية العنيفة، غير المبرَّرة، خصوصًا تجاه الأشخاص المقربين الذين يعيشون معنا باستمرار؛ هو تبني أحكام خاطئة عليهم، ثم تبني سلوك عنيف أو عقابي تجاههم، بناءً على تلك الأحكام.
فنحن نُصدر الأحكام، ونتبنى فكرة العقاب على مستوى اللاوعي، فتظهر في سلوكياتنا، وردود أفعالنا، وتعاملاتنا اليومية معهم، مما يؤدي إلى نفور المقربين من بعضهم البعض. أليس هذا ما يحدث حقًّا؟
ومن أراد إصلاح علاقاته بذويه، فعليه أن يجلس بهدوء، ويكتب الأحكام التي أصدرها عليهم وعلى سلوكياتهم، ويُعيد تقييم الأمر برمته، ويبحث عن دوافعهم الحقيقية ونواياهم الطيبة تجاهه، لا كما تَصوَّرها، أو - على الأقل - رؤية دوافعهم المؤقتة لسلوكهم السلبي تجاهه. فربما كانوا منزعجين من أمرٍ ما، واختاروه كشخص آمن لتفريغ الغضب عليه.
وعلى الرغم من أن تفريغ الغضب في المقربين ليس سلوكًا سليمًا، إلا أن دافعه هو شعورهم بالأمان معنا، لذلك يُطلقون العنان لانفعالاتهم أمامنا دون أقنعة. فلنغفر للأقربين بعد رؤية الحقيقة، ولنُعدِّل سلوكنا وردود أفعالنا تجاههم، فهم يستحقون منا أن نراهم بعيون أكثر إنصافًا.
انتهى المقال.. وليس عندي - بعد كلمات الكاتبة - ما يُقال.. فقط تَذكَّر دومًا.. كُن نفسك.. اتسق مع ذاتك.. حِبها وعالجها.. اعترف بضعفك وواجهه باتزان.. أنت إنسان والعمر قصير.. والحل ليس بأن تئن في صمتٍ نبيل.. لأنك في النهاية حتمًا ستنهار.. الحل في أن تبدأ المواجهة.. بحب وعقل وقوة.. ابدأ الآن من فضلك.. لأجل نفسك.. ولأجل صلاح الحياة من بعدك.