إن الحديث عن تعمير غزة ليس مجرد واجب إنساني، بل هو مسئولية قومية تقع في الأساس على عاتق مصر والأمة العربية بأسرها، فمدينة غزة هي بالفعل خط الدفاع الأول عن الأمن القومي العربي، ودعمها في مرحلة إعادة البناء هو في جوهره دفاع عن النفس. وتاريخ مصر العريق يشهد على وقوفها الدائم إلى جانب أشقائها، وهذا العهد يتجدد اليوم وغزة في أمسّ الحاجة إلى تكاتف عربي شامل.
الدعوة إلى إستراتيجية علمية للتعمير
إن الجهود المطلوبة حالياً يجب أن تتجاوز الدعم السياسي والمالي المباشر لتشمل الجهود العلمية والفنية والاقتصادية والفنية والرياضية، فيجب أن تقوم عملية بناء غزة على أساس متين من الدراسات العلمية، وفي طليعتها "دراسات تقييم الأثر الاجتماعي والبيئي" لعملية التعمير.
هذه الدراسات ليست إجراءً شكليًا، بل هي البوصلة الحقيقية التي تضمن استدامة ونجاح التعمير. إنها عملية فريقية؛ أي يقوم بها فريق كامل يضم مختلف التخصصات، وتبدأ قبل وضع حجر الأساس وتستمر خلال فترة التعمير وبعدها، وتضم كوكبة من العلماء المتخصصين في كافة التخصصات (هندسة، طب، زراعة، اقتصاد، اجتماع، فن، رياضة). والأهم أن هذه الخطوات مرهونة بـ المشاركة الشعبية الواسعة من سكان غزة أنفسهم.
معلومة تاريخية: تعود جذور دراسات تقييم الأثر البيئي إلى فترة إعلان الرئيس نيكسون عن ضرورة إجرائها قبل أي مشروع، ما يؤكد أهمية المنظور البيئي الشامل في المشاريع الكبرى.
خبرة متطوعة لخدمة غزة
يسعدني ويشرفني أن أعلن عن استعدادي التام للتطوع والمشاركة في هذه الدراسة المحورية. ولحسن الحظ، لديّ مجموعة من الخريجين والطلاب الأكفاء من مدينة غزة الحبيبة يمكنهم تقديم إسهامات وخبرات كبيرة. كما أن هذه الرغبة تشمل العديد من زملائي وطلابي في كلية الدراسات والبحوث البيئية بجامعة عين شمس.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الكلية هي الأكبر والأعرق والأشمل في مجالها على مستوى الوطن العربي، وتضم نخبة من أكبر الخبراء الذين يمتلكون خبرة عمل جماعي متراكمة لأكثر من أربعة عقود.
الأبعاد المقترحة لـ "التقييم الاجتماعي": رؤية شاملة
بصفتي متخصصًا، أرى أن جانب "التقييم الاجتماعي" – وهو بُعد واحد من الأبعاد المتكاملة – يجب أن يتضمن دراسة عميقة لعدة محاور لضمان تلبية الاحتياجات الحقيقية للمجتمع الغزّاوي. وها هي أهم المقترحات التي يجب مراعاتها:
الديموغرافيا المستقبلية: دراسة عدد السكان المتوقع ونموه على مدى الـ 50 عامًا القادمة.
سوق العمل: تحديد نسبة الاعتماد على العمالة المحلية، وتحديد الاحتياجات المطلوبة من العمالة الخارجية المتخصصة.
التخطيط العمراني: رصد معدلات الازدحام والكثافة السكانية في مختلف المناطق.
التحديات البيئية: تقييم مدى تآكل الشاطئ ونحره المتوقع نتيجة التغيرات المناخية.
النسيج الاجتماعي: تحليل التوزيع الجِنسي والعِرقي والديني للمقيمين والوافدين.
جودة الحياة الأسرية: تقدير متوسط حجم الأسرة، وتوزيع الأعمار والجنس للسكان.
الاحتياجات الأساسية: تحديد حجم احتياجات التعليم والمساكن (مع مراعاة ذوي الإعاقة وعادات المجتمع)، وتخطيط الأسواق التجارية وأنواعها وأماكنها.
الصحة في زمن الحرب: تقدير حجم الخدمات الصحية المطلوبة ومناسبتها لظروف وإصابات الحرب.
الدعم النفسي والتأهيل: تحديد أهم الاحتياجات الرياضية والترفيهية والاجتماعية والنفسية لمصابي الحرب وبرامج إعادة التأهيل.
شبكات الأمان: توفير خدمات لرعاية الفقراء.
الشراكة الشعبية: تشجيع وإشراك القيادات الشعبية (الدينية، الفنية، الرياضية، الإعلامية) في دعم المشروع والترويج له.
دعوة لحملة تعمير كبرى
هذه المقترحات هي نقاط بداية تخضع للدراسة المتعمقة بمشاركة ممثلين عن أهالي غزة وفريق العمل. وفي الختام، أُعلن عن استعدادي للتدريس "أون لاين" في أي جامعة بغزة في مجال تخصصي، لتكون هذه دعوة لبدء حملة كبيرة ومستدامة للمساهمة في تعمير ودعم غزة في كافة المجالات.
ولنا في تاريخنا القريب عبرة، حين هبّ الفنانون المصريون وعلى رأسهم حليم وأم كلثوم لدعم المجهود الوطني، فلنجعل اليوم دعمنا لغزة هو البداية الجديدة لهذا التكاتف.
* أ.د. بكلية الدراسات والبحوث البيئية، جامعة عين شمس