ألقاب عديدة حازها الوزير السلجوقي المُلح نظام الملك، منها "تاج الحضرتين"، و"عدو الحشاشين"، واتصف بالحكمة وقت الفتن والصراعات، كان عالمًا وفقيهًا وسياسيًا بارعًا وإداريًا مبدعًا وأديبًا وفيلسوفًا من الطراز الرفيع، و وضع الأسس الإدارية للدولة السلجوقية، وأرسى قواعدها حتى عُرف عصره بعصر "السلاجقة العظام" .. إنه الوزير نظام الملك الطوسي.
موضوعات مقترحة
مولده ونشأته
نظام الملك الطوسي هو أبو علي الحسن بن علي بن إسحاق الطوسي، ولد في قرية نوقان التابعه لمدينة طوس في عام (408هـ/ 1017 م)، والتي تقع حاليًا شرق إيران بالقرب مع حدود تركمانستان، وكان والده دهقانًا لمدينة بيهق التابعة لمدينة طوس زمن الغزنويين، ووالده كان من رجال الدولة الغزنوية.
وُلد نظام الملك يتيمًا، حيث توفيت والدته وهو رضيع، وكان والده فقيرًا لا يستطيع أن يستاجر له مرضعة فكانت ترضعه كل النساء القرية لوجه الله بدون مقابل، اهتم والده بتعليمه فحفظ القرآن في الحادية عشرة من عمره، واتقن اللغة العربية بجوار الفارسية، وتعلم علوم الحديث ودرس الفقة وبالتحديد المذهب الشافعي الأشعري، واهتم بدراسة اللغة والنحو والآداب والحساب والفلك.
ارتحل نظام الملك مثل باقي طلاب العلم إلى حواضر المشرق الاسلامي مثل مدينة نيسابور والري و أصفهان وبغداد؛ من أجل طلب العلم ثم انخرط في الإدارة مثله مثل أبيه .
نظام الملك في مرآة المؤرخين
حاز نظام الملك السلجوقي على ثناء المؤرخين في كتب التواريخ العامة والتراجم، ومن أشهر من تحدثوا عنه..
١- قال عنه الذهبي :"الوزير الكبير، نظام الملك، قوام الدين، عاقل، سائس ،خبير سعيد متدين، محتشم، عامر المجلس بالقراء والفقهاء".
٢- قال عنه ابن كثير : "من أحسن السير".
٣- قال عنه ابن الأثير:"وكان مملوكاً تركياً خيراً، يحب أهل العلم والصالحين ويرى العدل ويفعله، وكان خير الولاء، يحافظ على الصلوات في أوقاتها، ويصلي من الليل متهجداً".
٤- ويحدثنا المؤرخ أبو شامة عن آثار السلاجقة لا سيما في زمن نظام الملك :" فلما ملك السلجوقية جددوا من هيبة الخلافة ما كان قد درس لاسيما في وزارة نظام الملك، فإنه أعاد الناموس والهيبة إلى أحسن حالاتها".
٥- يقول الامام السبكي عنه" كان من أولاد الدهاقين رؤساء الفلاحين، وكان يتصف بالفطنة والذكاء وحسن السياسة".
٦- ويقول المؤرخ ابن عقيل نظام الطوسي"بهر العقول جودًا و كرمًا وعدلاً وأحياء لمعالم الدين، وكانت أيامه أيام دولة أهل العلم ثم ختم له بالقتل وهو في طريقة إلى الحج ومات في رمضان ومات ملكا في الدنيا و ملكا في الآخرة".
المسيرة الإصلاحية لنظام الملك
لما تولى السلطان ملكشاه أمور الدولة انفلت أمر العسكر وبسطوا أيديهم في أموال الناس، وقالوا ما يمنع السلطان أن يعطينا الأموال إلا نظام الملك، وتعرض الناس لأذى شديد، فذكر ذلك نظام الملك للسلطان، وبيّن له ما في هذا الفعل من الضعف، وسقوط الهيبة والوهن ودمار البلاد، وذهاب السياسة، فقال له:"أفعل في هذا ما تراه مصلحة، فقال له نظام الملك: ما يمكنني أن أفعل إلاّ بأمرك، فقال السلطان : قد رددت الأمور كلها كبيرها وصغيرها إليك، فأنت الوالد، وحلف له، وأقطعه إقطاعاً زائداً على ما كان، وخلع عليه، ولقبه ألقاباً من جملتها:"أتابك، ومعناه الأمير الوالد، فظهرت من كفايته وشجاعته وحسن سيرته ما أثلج صدور الناس، فمن ذلك أن امرأة ضعيفة استغاثت به، فتوقف يكلمها وتكلمه، فدفعها بعض حجّابه، فأنكر ذلك عليه، وقال:"إنما استخدمتك لأمثال هذه، فإن الأمراء والأعيان لا حاجة لهم إليك، ثم صرفه عن حجابته".
سياست نامه
كان نظام الملك مؤمناً بالإسلام مُقدساً لتعاليمه، كما كان شغوفاً بعلومه، معظماً لأعلامه حتى صار الإسلام دينه ودولته على السواء، وكان يرى أن الدولة وسيلة من وسائل نشر الإسلام وإذاعته بين الناس، وقد ظهر علماء كرام في عهد النظام، بينوا ارتباط الدين بالدولة، بحيث صار وسيلة لها وغاية في آن واحد، فالإمام الغزالي والماوردي يقولان :"إنه ليس دين زال سلطانه إلاّ بدلت أحكامه وطمست أعلامه وكان لكل زعيم فيه بدعة، كما إن السلطان إن لم يكن على دين تجتمع به القلوب حتى يرى أهل الطاعة فيه فرضاً والتناصر له حتماً "، وقيل:"الدين أس والسلطان حارس، ومالاً أس له فمهزوم ومالا حارس له فضائع".
وشاعت هذه المقولة أيضاً في شرق العالم الإسلامي وأخذ يرددّها الطرطوشي وابن خلدون وغيرهم في غربه، وبذلك الدافع من إيمانه القوي في الدين واعتقاده الراسخ في إصلاحه، وبذلك اليقين من أعماق نفسه بضرورة الدولة العادلة لرعاية الناس وإسعادهم كتب رسالته في السياسة ووضع فيها الأسس العامة للدولة الجديدة وقد انطلقت رؤيته للدولة من أصول المذهب السني، وقد كان سلاطين السلاجقة الأوائل يدينون بالإسلام وكانوا في أشد الحاجة لفهمه.. لذلك تكلم في الكتاب عن:
- السلطان وعن واجباته واختصاصه.
- خزينة الدولة والمراسيم السلطانية، والحاشية السلطانية، والمائدة السلطانية، والاستقبالات السلطانية، والحرس السلطاني،و ناظر الخاصة.
- الوزير والوزارة.
- الموظفون في الدولة، والسفراء بين الدول.
- القضاة والقضاء، والمحتسبون للمراقبة.
- الولاة وأمراء الإقطاع.
- الغلمان والتجنيد، والجيش وإعداده، والألقاب وتحديدها.
التنظيمات الإدارية لنظام الملك
كان الوزير نظام الملك هو الموجه لأداء الدولة في عهد السلطان ألب أرسلان، واتسعت سلطاته في عهد السلطان ملكشاه ، فأشرف بنفسه على رسم سياسة الدولة الداخلية والخارجية بشكل كبير، مستفيداً من فهمه ومعرفته لنظم الإدارة.
ويظهر من خلال كتاب "سياست نامه" أهم الطرق الإدارية التي اتبعها الوزير نظام الملك في إدارته للدولة السلجوقية، ويأتي في مقدمتها:
- وقوفه بشدة ضد تدخل أصدقاء السلطان المقربين في شؤون الدولة، حتى لا يتسبب ذلك في اضطراب إدارتها.
- كان يهتم بشكل خاص بالبريد الذي كان رجاله يوافون الحكومة فيه بكافة أخبار البلاد الخاضعة لها.
- حرصه الشديد على إرسال المخبرين إلى جميع الأطراف في هيئة التجار والسياح والمتصوفة والدراويش والعقارين، ليتنسموا الأخبار، ويرسلونها للسلطان أولاً بأول حتى لا يخفى على شيء عن أمور مملكته.
وقد نجح نظام الملك في أحباط عدد من المؤامرات ضد الحكومة المركزية بفضل ما كان يصل إليه عن طريق أولئك المخبرين.
- كما عمل نظام الملك على الحد من استغلال الموظفين والعمال لسلطاتهم حتى لا يرهقوا الرعية بالرسوم والضرائب الباهظة.
كان يُغير الولاة والعمال مرة كل سنتين أو ثلاث ضماناً لعدم تلاعبهم في أعمالهم.
ولما ألغى السلطان ألب أرسلان وظيفة "صاحب البريد" و وظيفة "صاحب الخبر" ، ورتب وزيره نظام الملك في كل مدينة رجلاً نزيهاً لمراقبة الوالي والقاضي والمحتسب ومن يجري مجراهم من الموظفين وموافاتهم بأخبارهم أولاً بأول.
- كذلك كان نظام الملك يدقق في اختيار الموظفين، فيختار من كان منهم أغزر علماً وأزهد نفساً وأعف يداً وأقل طمعاً.
وكان يختار لوظيفتي "صاحب البريد" و"صاحب الخبر" أناساً لا يرقى الشك إليهم لحساسية هذا العمل، ويتم تعيينهم من قِبل السلطان نفسه.
وكان نظام الملك يصرف مرتبات مجزية لموظفي الدولة، خشية أن يضطر الموظف إلى الاختلاس من مال الدولة، أو يستغل منصبه ويتسلط على أموال الرعية، كما كان حريصاً على مراجعة حسابات الدولة في نهاية كل عام لمعرفة الدخل والمنصرف والموازنة بينهما.
ولكي يضمن تنفيذ خطته الإدارية بدقة استعان بعدد من كبار موظفي الدولة المخلصين والأكفاء، وكوّن منهم ما يشبه المجلس الاستشاري، مهمته فيما يبدو – دراسة ما يعرض عليه من أمور هامة ووضع الحلول الملائمة لها، ومن ثم متابعة تنفيذها بدقة.
لقد كانت شؤون دولة السلاجقة قبل تولي نظام الملك الوزارة غير منظمة، فتطرق الخلل إلى إدارة الولايات التابعة لها، وساءت الحالة المالية فيها نتيجة لخراب أراضيها، ولعدم قيام المشرفين عليها بما تحتاج إليه من عمارة وإصلاح، فلما جاء نظام الملك إلى الوزارة ونظم شؤون تلك الولايات، وعمر أراضيها، وأقر سلطة الدولة في النواحي التي كادت أن تخرج من حظيرتها.
المدارس النظامية
بلغت الوزارة أعلى درجاتها في الفترة التي تولاها نظام الملك في الدولة السلجوقية؛ فقد كان نافذ الكلمة في كل الأمور، يسيطر على الجيش والولاة، وكان عالماً أريباً له كتاب عظيم في سياسة الملك، اسمه: "سياست نامه" أي كتاب السياسة، ضمنه أفضل النظم لحكم الولايات التي تتكون فيها الدولة، وتصريف الأمور، وسجل فيه أصول الحكم التي تؤدي إلى استقرار البلاد، وقد تُرجم هذا الكتاب إلى العربية.
وأسدى الوزير للحضارة الإسلامية ما خلّد ذكره، وفاق كل أعماله في دنيا الحكم والسياسة، بإنشائه عدداً من المدارس في أنحاء الدولة نسبت إليه، فسميت بـ"المدارس النظامية"، وهي تعد أول نوع من المؤسسات العلمية والمدارس التعليمية النظامية ظهر في تاريخ الإسلام، وقد هيأ لطلابها أسباب العيش والتعليم.
وقد خصصت المدارس النظامية لتعليم الفقه والحديث، وكان الطلاب يتناولون فيها الطعام، وتجري على كثير منهم رواتب شهرية.
ومن أهم المدارس التي أنشأها نظام الملك: المدرسة النظامية ببغداد التي بُدئ في بنائها سنة (457هـ= 1065ف)، وبلغ من اهتمام الخليفة العباسي بها أنه كان يعين الأساتذة فيها بنفسه، وكان يدرّس فيها الفقه والحديث، وما يتصل بهما من علوم، وقد درّس فيها مشاهير الفكر والثقافة مثل حجّة الإسلام أبي حامد الغزالي صاحب إحياء علوم الدين، في الوقت الذي كان يدرّس في نظامية نيسابور إمام الحرمين "أبو المعالي الجويني".
وقد أسهمت هذه المدارس التي انتشرت في بغداد وأصفهان ونيسابور ومرو في تثبيت قواعد الإسلام السنّي والدفاع عنه ضد مختلف البدع والمذاهب المنحرفة التي انتشرت في ذلك الوقت.
وقد بلغ ما ينفقه نظام الملك في كل سنة على أصحاب المدارس والفقهاء والعلماء ثلاثمائة ألف دينار، فلما راجعه ملكشاه في هذا الأمر؛ قال له الوزير العالم:"قد أعطاك الله تعالى وأعطاني بك ما لم يعطه أحداً من خلقه، أفلا نعوضه عن ذلك في حملة دينه وحَفَظة كتابه ثلاثمائة ألف دينار".
نهاية نظام الملك
كان نظام الملك بعد ما كبرت سنّه يستعين بأبنائه وأقاربه في إدارة أقاليم الدولة، وكان لهؤلاء نفوذ كبير في الدولة؛ استمداداً من نفوذ نظام الملك نفسه، وكان بعضهم يسيء استخدام السلطة ويستغل نفوذه في مآربه الخاصة، وهو ما أعطى الفرصة لحسّاد نظام الملك أن يفسدوا العلاقة بينه وبين السلطان ملكشاه، ونجحت مساعيهم في ذلك، حتى همّ السلطان بعزله، لكنه لم يجرؤ على تنفيذ هذا الأمر، فبعث إليه برسالة تحمل تهديده ووعيده، فما كان من نظام الملك إلا أن قال لمن حملوا له رسالة السلطان: "قولوا للسلطان: إن كنت ما علمت أني شريكك في الملك فاعلم، فإنك ما نلت هذا الأمر إلا بتدبيري ورأيي، أما يذكر حينما قُتل أبوه، فقمت بتدبير أمره وقمعت الخوارج عليه من أهله وغيرهم…".
ثم لم يلبث أن قُتل الوزير نظام الملك في أصبهان في (10 من رمضان 485 هـ= 14 من أكتوبر/تشرين الأول 1092ف) على يد أحد غلمان فرقة الباطنية المنحرفة المعروفة بالحشّاشين، حيث حين تقدم إليه وهو في ركب السلطان في صورة سائل أو زاهد، فلما اقترب منه أخرج سكّيناً كان يخفيها وطعنه طعنات قاتلة، فسقط صريعاً.. وكان نظام الملك شديد الحرب على المذاهب الهدّامة وبخاصة مذهب الباطنية فأرادوا التخلص منه بالقتل.
وبعد وفاة نظام الملك بخمسة وثلاثين يوماً توفي السلطان ملكشاه، في (15 من شوال 485هـ= 18 من نوفمبر/تشرين الثاني 1092ف) فانطوت صفحة من أكثر صفحات التاريخ السلجوقي تألّقاً وازدهاراً.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
الدكتور سليمان عباس البياضي