منحه الله موهبة شعرية فذة، وبديهة متدفقة فلا يجد عناء ولا يواجهه جهد في نظم القصيدة، فدائما يتمتم بالشعر أينما كان، تجاوز إنتاجه الشعري ثلاثة وعشرين ألف وخمسمائة بيت، فاستحق عن جدارة أن يوصف بأنه "أخصب شعراء العربية"، وأن يبايعه الشعراء والأدباء أميرًا في حفل أُقيم بدار الأوبرا بالقاهرة عام 1927م، وأعلن فيها حافظ إبراهيم باسمه ونيابة عن كل الشعراء مبايعتهم:
بلابل وادي النيل بالشرق اسجعي بشعر أمير الدولتين ورجعي
أعيدي الأسماع ما غردت به براعة شوقي في ابتداء ومقطع
أمير القوافي قد أتيت مبايعا وهذي وفود الشرق قد بايعت معي
أمير الشعراء أحمد شوقي
إنه أحمد شوقي أمير الشعراء، شاعر الإسلام، شاعر الشرق والغرب، أحد مؤسسي مدرسة الإحياء والبعث الشعرية، وأول شاعر عربي يكتب فى المسرح الشعري، وسجل أحداث الثورة، واهتم بالتحركات الشعبية الساعية للتحرير، وقد تنوعت قصائده من المديح، والرثاء، والغزل، والوصف، والحكمة، وعرض الكثير من الموضوعات والقضايا كما كتب قصائد للأطفال، وخمس قصائد في مدح الرسول ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ ، ومنها (وُلد الهدى، نهج البردة، الهمزية النبوية، سلوا قلبي".
توفى بعد انتهائه من نظم قصيدة يُحيي بها "مشروع القرش" في 14 أكتوبر عام 1932م، وكانت وفاته حدثا جللا أفردت له جريدة "الأهرام" ليوم 15 أكتوبر 1932 صفحتها الأولي التي امتلأت بمجموعة من صوره وتفاصيل تشييع جنازته، وكتب رئيس التحرير أنطوان الجميل ينعيه للأمة تحت عنوان (شوقي)
ما أشأم هذا الصيف على الأدب العربي!
غيبت أشهره الثلاثة من سماء الشعر فرقديه، وقوضت من صرح الأدب ركنية.
أمير الشعراء أحمد شوقي
وفى التفاصيل:
(ما همت شمس الصيف بدخول برج الأسد في أوائل الفصل حتى أغارت على الأدب فطاحت بفارس ميدانه، وما استوت عند أواخر الفصل في برج الميزان حتى عبثت بفيصل الشعر وميزانه.
ما كففت مصر دموعها على حافظ حتى أطلقتها أمس على شوقي, وما انتهت أندية العرب من توفيه حافظ حق التأبين والرثاء، حتى حمل إليها الرق نعى إمام الشعر وأمير الشعراء.
منذ عشرة أسابيع أو ما يقرب من هذه المدة كان الأدب العربي يتيه بشاعريه فخراً، ويطاول بهما أزهى عصور الأدب زهوا، وها هو اليوم قد فجع بهما، الواحد تلو الأخر يبكيهما معا فلا حول ولا قوة إلا بالله.
أما مصر فقد أجلسها شعر شوقي وحافظ الصدر بين بلاد العرب، وثبت في يدها مدة ثلث قرن صولجان الأدب، فكانت مصر تباهى سائر الأمصار، وكان عصرها بشاعريها عصرا يدل على العصور ويفاخر عهد بغداد والأندلس في أبان الازدهار)
يقول اللاتين: «يصيرُ الخطيبُ خطيبًا، ولكنَّ الشاعرَ يُولدُ شاعرًا.»
أمير الشعراء أحمد شوقي
وقد وُلد شوقي شاعرًا، وظل شاعرًا من مهده إلى لحده.
كان شاعرًا يوم دخلت به جدته على الخديوي إسماعيل، وهو في الثالثة من عمره؛ وكان بصره لا ينزلُ عن السماءِ من ارتجاج أعصابه، فطلب الخديوي بدرة من الذهب، ثم نثرها على البساط عند قدميه؛ فوقع شوقي - كما روى في مقدمة ديوانه - على الذهبِ يشتغل بجمعه واللعب به، فقال الخديوي لجدته: "اصنعي معه مثل هذا، فإنه لا يلبثُ أن يعتادَ النظر إلى الأرض."
قالت: "هذا دواء لا يخرج إلا من صيدليتك يا مولاي".
قال: "جيئي به إلي متى شئت، إني آخر من ينثر الذهب في مصر".
وكان شوقي شاعرًا، وهو طالب في المدرسة، وقد أخذت آلهة الشعرِ توحي إليه بالصور الجميلة والكلام الموزون الموسيقي.
وكان شوقي شاعرًا، وهو يطلب الحقوق والآداب في فرنسا؛ وقد نظم في تلك الحِقبةِ من القصائدِ ما كان يبشِّرُ بما سيصيرُ إليه من الإِمامة والإِمارة في دولة القريض.
وكان شاعرًا، وهو يمثل الحكومة المصرية في مؤتمر جنيف؛ فنظم قصيدة غراء تضمنت ما وقع في وادي النيل من كبار الحوادث منذ فجر التاريخ.
وظل شاعرًا في جميع أدوار حياته، وهو في أوج الجاه وأبهة المناصب العالية والنفوذ لدى الحكام؛ وظل شاعرًا، وهو في منفاه يطوف ربوع الأندلس ويتغنى بمفاخرها الدارسة، ويبكي ويستبكي حنينًا إلى وطنه.
وظل شاعرًا بعد عودته إلى ذلك الوطن، بل قد يكون هذا العهد، وهو عهده الأخير، أخصب أدوارِ عمرِه إنتاجًا شعريا، فقد أقلع فيه عما ألفه اضطرارًا، بحكم لقبه ومنصبه، من الموضوعات التي حفل بها ديوانه الأول، وتوفر على كل موضوعٍ وطني تاريخي عمراني، وكأن قريحته كانت تزداد صفاءً ورواءً مع تقدمه في السن، وكأن شاعريته كانت تزيد تدفقًا وغزارة كلما أخذ معين الحياةِ ينضب في جسمه النحيل.
فلم يكتف بالقصائد يقصدها، بل عمد إلى أشهرِ الحوادث من تاريخ مصر وتاريخ العرب ينظمها روايات تمثيلية شعرية، وأقبل على الفن الروائي يعالجه في سن يودع فيها هذا الفن غيره من الشعراء.
وهكذا كان في الحلقةِ الأخيرةِ من عمره يطالعنا في كل حادث من الحوادث بقصيدة عصماء، ويزف إلينا في كل عام رواية حسناء.
أمير الشعراء أحمد شوقي
كان شاعرًا في «كرمة ابن هاني» يوم كانت في «المطرية» مباءة أهل الفضل والأدب، وبعد أن انتقلت إلى «الجيزة» على ضفة النيل يجمع فيها أميرها نفرًا من أصحاب النظر والرأي في الكتابة، فيطلعهم على رواياته قبل أن يدفعها إلى خشبة المسرح.
وظل شوقي شاعرًا في مماته: ففي الليلةِ التي تقدمت صباح منيته، كانت إحدى المغنيات الشهيرات تنشد قصيدة من قصائدِه، والجمهور يصفق طربًا لروعة الشعر، وبعد وفاته ببضع ساعات كانت آخر قصيدة نظمها تلقى في حفلة الشباب القائم بمشروع القرش.
أمير الشعراء أحمد شوقي
وقد يختلف الرأي في بعض شعره؛ غير أن في دواوينه الكثير مما يرفع قائله إلى المرتبة الأولى بين الشعراء، ويحفظ ذكره خالدًا في تاريخ الأدب.
ولقد كان، رحمه الله، على ما نال من بسطة العيش وكبير الألقاب وواسع الجاه وبعد الشهرة، وديع النفس منخفض الجانب دمث الأخلاق.
وكان عف اللسان والقلم؛ لم ينطق هجرًا، ولم يكتب هجاء، قال فيه المرحوم إسماعيل صبري باشا:
مرحبًا بالمقالِ سمحًا كريمًا لم يشبه هجو ولا إيذاء
مرحبًا بالبيان سحرًا وبالشعرِ تحليه حكمة غراء
أمير الشعراء أحمد شوقي
أما بره بأولاده وعطفه على أهل بيته فقد كانا مضرب المثل؛ فكأنه خلق ليكون أبًا، كما ولد شاعرًا، وقد نظم في بنيه قصائد سوف يخلد معها ذكرهم.)
(أما الآن، وقد مات حافظ، فمن ذا الذي يوفي شوقي حقه من الرثاء، وهو القائل منذ شهرٍ في رثاء حافظ:
قد كنتُ أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
لكن سبقت وكل طول سلامة قدر وكل منية بقضاء
وهكذا لفت المنية اليوم علمًا من أرفع أعلامِ الشعر، وطوت صفحة من أمجد صفحات الأدب العربي.
أمير الشعراء أحمد شوقي مع أولاده
وعندما أُودع شوقي القبر عند غروب شمسِ اليوم، لم يسعنا إلا أن نذكر قوله:
أقول لهم في ساعة الدفن خففوا علي ولا تلقوا الصخور على قبري
ألم يكف هم في الحياةِ حملته فأحمل بعد الموت صخرًا على صخرِ
أمير الشعراء أحمد شوقي مع ولديه علي وحسين
أكملت الأهرام بعد مقاله "الجميل" تسرد ما حدث له قبل الوفاة تحت عنوان وفاته
(كان الفقيد في الأيام الاخيرة يتمتع بصحة طيبة، ولم يكن يشكو غير فقد شهية الطعام، وقد فحصه أحد الاطباء المعروفين، فقرر أن صحته العامة لا بأس بها، لكن لتغذية ضعيفة، وينصح له بأن يُعطى الجسم حاجته من الغذاء.
وكان يوم أمس الأول من الأيام التي أحس الفقيد فيها بنشاط صحي مكنه من تناول طعام الغذاء بشهية، ثم ذهب في نزهة بالسيارة إلى ضاحية مصر الجديدة، وعرج على دار صديقه الأستاذ إسماعيل شيرين بك مدير المطبوعات لزيارته فلم يجده فترك له بطاقته، ثم قصد حوالي التاسعة إلى أحد المطاعم بالعاصمة فتناول عشاؤه فيه، وتوجه على اثر ذلك إلى دار زميلتنا "الجهاد" فمضي مدة فيها ثم ذهب إلى منزله بالجيزة).
أمير الشعراء أحمد شوقي مع ولديه علي وحسين
واستكملت الأهرام ما جرى تحت عنوان:
إن أمري قد انتهى
(ووصل الفقيد إلى منزله حوالي الساعة الحادية عشر مساء وأخذ مضجعه، ولكنه استيقظ عند منتصف الساعة الثانية صباحا، فدق الجرس وحضر الخادم فطلب إليه الفقيد أن يحضر ماء ساخنا وورق كافور وكلفه باستدعاء طبيبين سماهما له وهما الدكتور برسكا والدكتور جلاد.
ثم أمر الفقيد الخادم أن يوقظ السيدة قرينته وأنجاله ففعل، وهنا أحس الفقيد بالخاتمة فقال لخادمه "أنى اشعر أن أمري قد انتهى فعليك أن تبلغ تحياتي وسلامي إلى أصدقائي الذين كانوا يزورونني هنا.
وحضر آل الفقيد، وهو في النزع الأخير، ولما وصل الدكتور جلاد كان الفقيد قد أسلم روحه إلى بارئها في منتصف الساعة الرابعة صباحاً فانطفأ هذا المصباح المنير الذي شع ضوءه، فملأ الأفاق نورا وكسا الدنيا بهجة وسرورا، وذهب شوقي بعد أن كان اسمه ملء فم الدنيا وشعره أدب العالم العربي ومفخرته على الأجيال الغابرة والحاضرة.)
أمير الشعراء أحمد شوقي مع الزعيم سعد زغلول
وكتبت "الأهرام" تحت عنوان (تشييع الجنازة ..اشتراك الوزارة)
وقد أرسل دولة إسماعيل صدقي باشا رئيس الوزراء بمناسبة وجوده هو وزملائه في مرسي مطروح إلى معالي الأستاذ حلمي عيسي باشا وزير المعارف التلغراف الآتي:
(أرجو أن تنوب عنى وعن زملائنا الوزراء في تشييع جنازة المرحوم شوقي بك الشاعر)
أمير الشعراء أحمد شوقي مع شاعر النيل حافظ إبراهيم
إسماعيل صدقي
وقد أعلن عن خط سير الجنازة التي ستبدأ من الخامسة والنصف مساء من ميدان الإسماعيلية، حيث أُعد سرادق كبير لاستقبال المشيعين، وسارت الجنازة حتى جامع الكخيا حيث أُقيمت الصلاة، وتناوب على حمل النعش أعضاء جماعة "أبولو" تتقدمهم صفين من جنود المشاة، وحاوط الجنازة بعض الفرسان، ومن خلفها نائب الملك ونائب الوزراء وسط أسرة الفقيد والجماهير من محبي شعر شوقي، ثم سارت الجنازة حتى مرقده الأخير بمقابر حسين شاهين باشا بمنطقة السيدة نفيسة، وأوصى بكتابة بيتين من قصيدة نهج البردة على قبره.
أمير الشعراء أحمد شوقي مع الموسيقار محمد عبد الوهاب
وقد أفردت "الأهرام" أعمدتها لكلمات الرثاء التي ألفها على العناني، وأحمد محفوظ، ودكتور أحمد ناجي، والأستاذ محمد الغنيمي التفتازاني وغيرهم.
كما نشرت "الأهرام" ما ورد إليها بالبريد رثاء له، واستمرت في تغطية آثار وفاته على مدار الأيام التالية على صفحتها الأولى تحت عنوان (صدى وفاة إمام الشعر وأمير الشعراء).
عدد الأهرام الخاص بوفاة أمير الشعراء أحمد بك شوقي
عدد الأهرام الخاص بوفاة أمير الشعراء أحمد بك شوقي
جنازة أمير الشعراء أحمد شوقي
قصر أحمد شوقي كرمة ابن هانئ على النيل
قصر أحمد شوقي كرمة ابن هانئ على النيل
تمثال أحمد شوقي