نقف اليوم أمام لحظة تاريخية واستثنائية، ونحن نرى قادة العالم يتوافدون على مدينة السلام للمشاركة في قمة شرم الشيخ للسلام، وكتابة كلمة النهاية لفصول حرب غزة المتواصلة منذ عامين، والتي حصدت خلالها حياة الآلاف، وخلفت دمارًا هائلًا، وآلامًا لن تبرح مخيلة سكان القطاع والبشرية جمعاء لأجيال قادمة.
جاء الجميع إلى شرم الشيخ سعيًا لبلوغ مرفأ السلام، تتويجًا لجهود جبارة بذلتها مصر وقيادتها السياسية بحكمة وتوازنٍ، إذ أدارت الأزمة منذ بدايتها بصبر وتؤدة، وتحملت في سبيل ذلك كثيرًا من الأباطيل والمعلومات المغلوطة والشائعات والاتهامات السخيفة، التي كانت أبعد ما تكون عن الحقيقة. وقادت الدولة المصرية، مع بقية الوسطاء، المسيرة التفاوضية لكبح جماح الآلة العسكرية الإسرائيلية الغاشمة التي انطلقت بجنون، وانفلت عيارها ناشرة الدمار والخراب في غزة والضفة الغربية والمنطقة بأسرها.
إن مواقف مصر الصلبة والحصيفة، والتي أعتبرها درسًا قيمًا لا بد من دراسته، والتعلم منه فنون إدارة الأزمات، ستُكتب بحروف من نور وفخر في كتب التاريخ، إذ أثمرت عن مشهد شرم الشيخ الذي رأيناه ويتابعه العالم بشغف، بغية رفع الظلم والعدوان عن أهل غزة الذين صمدوا في وجه قوات الاحتلال الإسرائيلية، ولم يفرطوا في أرضهم، وأكدوا تمسكهم بها وبالبقاء على ترابها.
فما فعلته وستفعله مصر لتنفيذ مراحل اتفاق السلام في غزة يعكس قوة مؤسسات الدولة المصرية، وفي مقدمتها مؤسستها الدبلوماسية العريقة صاحبة التاريخ الطويل والمشرف، التي تزخر بخبرات بشرية من الوزن الثقيل. وليس هذا فحسب، بل إنها أيضًا أجهضت العديد من المشروعات الخبيثة المعدة لمنطقة الشرق الأوسط من قبل إسرائيل الراغبة في رسم خريطتها وفقًا لتصوراتها ورؤيتها التي لا تضع اعتبارًا لمصالح دوله.
وأول تلك المشروعات كان المشروع التوسعي الإسرائيلي الذي سعت تل أبيب لتحقيقه بعدما انتهكت سيادة إيران ولبنان واليمن وقطر، وظنت أن أحدًا لن يقدر على إيقافها، وأن الكلمة الأولى والأخيرة ستكون لها وحدها. يليه مشروع تهجير الفلسطينيين من غزة وإخلاؤها تمامًا تحت ذريعة إعادة بنائها وتحويلها إلى منتجعٍ يضاهي أفخم وأرقى منتجعات "الريفييرا" الفرنسية، وكأن غزة فرصة استثمارية متاحة يتنافس على اقتناصها مجموعة من رجال الأعمال الباحثين عن الربح ولا شيء غيره.
وغني عن البيان أن إتمام هذا السيناريو كان سيكون المسمار الأخير الذي يُدق لتصفية القضية الفلسطينية، وهو ما سعت إليه القيادات اليمينية المتطرفة في إسرائيل التي تملكها الغرور ونزعة سفك الدماء بجموح. ولا ننسى أن مصر لطالما حذرت مبكرًا من المحاولات الرامية لتصفية القضية الفلسطينية، مؤكدة أنه لا مخرج من الأزمة الطاحنة سوى تنفيذ حل الدولتين، الذي توافقت عليه القوى الدولية والمؤسسات العالمية، وعلى رأسها الأمم المتحدة.
كذلك أثبتت قمة شرم الشيخ صواب التوجه المصري القائم على أن المسار التفاوضي هو طوق النجاة والكفيل بتسوية الأزمات مهما كانت تعقيداتها وتشابكاتها وحدتها، وأن منطق القوة المنفلتة لن يقود إلا إلى مزيد من التعقيد، ولن يحقق السلام المرجو ولا الأمن المنشود.
وقد نجحت مصر، ومعها بقية الوسطاء، في جمع الفرقاء وتوحيد كلمتهم على حتمية وضرورة الجلوس إلى مائدة التفاوض، والتوصل إلى حلولٍ للجوانب الخلافية، ووقف شلالات الدم المتدفقة، والمحافظة على الأمن والاستقرار في منطقةٍ شديدة الالتهاب، يعلم الجميع أن اضطرابها وزعزعة استقرارها سيلقيان بظلال كثيفة على الاستقرار والأمن العالميين.
إن أصوات المجتمعين في شرم الشيخ تتفق على أن الشرق الأوسط يستحق أن ينعم بالسلام والاستقرار، والابتعاد عن لغة القوة والعنف وتهديد الأمن القومي لدوله من قبل إسرائيل، وأن الوقت قد حان لذلك، ولابد أن يُنصت الجميع لرسالة السلام الصادرة من مدينة السلام.